الأهرام
القمص أنجيلوس جرجس
العصر القبطى (18) نور ونار
لقد عانت الكنيسة القبطية والكنائس فى كل العالم، بل وكل الأديان، من تدخلات السياسة فى الأمور الدينية. ولم تعرف أوروبا التنوير والحضارة إلا بعد فصل الدين عن السياسة، وأصبحت إدارة الشعوب إدارة مدنية خالصة تخضع لقوانين لا تفرق بين عقيدة أو جنس. ولم تعرف مصر معنى الوحدة إلا حينما عاشت بمبدأ الدين للـه والوطن.

واليوم سنرى كيف عانت الكنيسة القبطية من محاولات تدخل الإمبراطور فالنس الذى كان يناصر الفكر الأريوسى الذى رفضته كنائس العالم كله، ولكنهم استطاعوا من خلال الإمبراطور أن يظهروا مرة أخرى وينشروا فكرهم المنحرف. وقد وجد الإمبراطور أنه يستطيع أن يخضع مصر بوضع بطريرك أريوسى بعد انتقال البابا أثناسيوس من الأرض لتكون الكنيسة القبطية والمصريون تحت سلطانه.

وقد انتخبت الكنيسة البابا بطرس الثانى خلفاً للبابا أثناسيوس عام 373م وهو كان أحد تلاميذ البابا أثناسيوس، وكان قد أرسله إلى إنطاكية ليثبت الكنيسة هناك على الإيمان استجابة لطلب القديس باسيليوس رئيس أساقفة أنطاكية -وهو الذى قد تعلم الرهبنة فى أديرة صعيد مصر-. وما أن جلس البابا بطرس على الكرسى المرقسى حتى غضب الإمبراطور وقد أرسل إلى والى الإسكندرية الرومانى أمراً بخلع البابا ونفيه وأنه سيرسل بطريركاً من عنده سينصبه بالقوة على الكنيسة القبطية.

وبالفعل أرسل لوقيوس وهو شخص أريوسى موال للإمبراطور، ووصل لوقيوس إلى الإسكندرية واستقبله الوالى وسار معه فى حماية كتيبة من الجيش ليدخله إلى الكاتدرائية فى الإسكندرية ويجلسه على الكرسى المرقسى بالقوة. وكانت الكنيسة ممتلئة بالمصلين والبابا بطرس داخل الكنيسة فتصدى لهم الشعب القبطى رافضين دخول البطريرك الأريوسى الدخيل متمسكين بالبابا بطرس. وكالعادة أشهر الجنود السيوف وذبحوا الشعب القبطي، وكما حدث مع البابا أثناسيوس حدث أيضاً فى هذا اليوم فقد أخذ الكهنة والأساقفة البابا وأخرجوه من الأبواب الخلفية حتى لا يُقتل ويجلس مكانه لوقيوس. وعاشت الكنيسة القبطية اضطهاداً من نوع أخر واستشهد الأقباط لأجل عقيدتهم مرة أخري.

وأرسل والى الإسكندرية إلى فالنس يخبره بأنهم لم يفلحوا فى القبض على البابا فأصدر أمراً بنفى أى أسقف لا يقبل لوقيوس بطريركاً فنفى جميع أساقفة مصر. واستطاع البابا بطرس أن يذهب إلى روما وتقابل مع ديونسيوس بطريرك روما الذى كان قد استمع إلى تعاليم البابا أثناسيوس فى المنفي، فعقدوا مجمعاً معاً حرموا فيه الفكر الأريوسى والأساقفة الدخلاء ومنهم لوقيوس ووافقت كنائس العالم كله على هذه القرارات. وحينما وصل الخبر إلى الإمبراطور أرسل جيشه إلى أديرة مصر ليعذبوا الرهبان إذ لم يوافقوا على الخضوع لأوامره. وفى ذلك الوقت كانت الأديرة هى القلعة الكبيرة التى احتمت فيها الكنيسة فكراً وروحاً، وبعد نفى الأساقفة وذبح الشعب القبطى فى الشوارع اضطر الأقباط إلى اللجوء إلى الأديرة فى الصحارى وقد كانت فى ذلك الوقت منتشرة فى كل ربوع مصر، بل وقد كان يأتى إليها من العالم كله راغبو التعلم والبحث عن الحقيقة، فأصبحت أديرة مصر هى المدرسة الحقيقية للمسيحية فى العالم كله. خاصة بعد تأسيس القديس باخوميوس الرهبنة على نظام الشركة، وهى طريقة حياة رهبانية تختلف عن الرهبنة التى أسسها الأنبا أنطونيوس، فرهبنة الأنبا أنطونيوس رهبنة توحدية يسكن كل راهب فى مغارة منفردة فى الجبل، بينما الرهبنة الباخومية يسكن مجموعة معاً ويعيشون حياة الشركة فى الصلاة والعبادة هذا بجانب اشتغالهم بأعمال شتي.

وبنيت الأديرة الباخومية كمجتمعات داخل أسوار وترهب فى ذلك الوقت عشرات الآلاف منتشرين فى الصعيد من سوهاج إلى أسوان، ولم يكن هؤلاء بمعزل عن المجتمع، فحين انتشر وباء الطاعون نزل الرهبان ليخدموا المرضى فى البيوت والشوارع، وقد انتقل المرض إلى الأنبا باخوميوس نفسه ومات بالطاعون.

وقد تأثر العالم كله بأديرة مصر فأتت إليها ابنة قنصل إسبانيا فى القصر الإمبراطورى وتدعى ميلانية وجاء معها مؤرخ شهير اسمه روفينوس من مدينة أكويلا بإيطاليا وقد رأوا اضطهاد فالنس للكنيسة والرهبان مما جعلهم يذهبون متخفين لخدمة الأساقفة والرهبان المضطهدين فى الجبال. وقد كتب روفينوس فى أحدى كتبه بعدما عاد إلى مدينته أكويلا: القد حظيت عيناى برؤية عدد من الآباء الذين عاشوا عيشة السماء على الأرض، لقد رأيت قديسين قدسوا العالم كله يعيشون فى صحارى مصر ويتنافسون على الحب والرحمة والاتضاع. قد كتبت هذا كى أنقل نورهم للآخرينب.

وفى كشفٍ قامت به جامعة بروكسل فى طيبة عام 1926م كشفوا عن مقبرة فرعونية أيام حكم أمنحتب الثانى من الأسرة السادسة والعشرين، وحينما دخلوا المقبرة وجدوا آثارا لحياة راهب يدعى فرانجيه كان قد ترهب فى دير بالقرب من المقبرة ثم توحد فيها، وقد ترك رسائل على الفخار محفوظة إلى الآن فى متحف بأكسفورد فى إنجلترا وهذه الرسائل تبين أنه أحد الأجانب الذين جذبتهم الرهبنة فى هذا العصر.

ويقول المؤرخ الإنجليزى ستانلى لين عن سبعة رهبان ذهبوا إلى إيرلندا وبعض الجزر البريطانية وبشروا بالمسيحية هناك. وكتب فى احدى كتبه: اإن المسيحية الإيرلندية وهى العامل العظيم فى تحضر الشعوب الشمالية فى أوائل العصور الوسطى كانت ابنة للكنيسة القبطية، وإن هؤلاء الرهبان مدفون فى صحراء أولديتب. كما كتب أيضا كنيث ميلدنبرجر عن تأثير هؤلاء الرهبان على الكنائس البريطانية ووجود أيقونات قبطية هناك. وفى مخطوط للملكية الإيرلندية بدبلن ترتيلة تقول: اإنى أتشفع بالرهبان السبع المصريين أن يكونوا فى عونيب. ثم حدثت ثورة من الأقباط أعادوا فيها البابا بطرس إلى كرسيه، وهرب لوقيوس خوفاً من المصريين. وفى ذلك الحين قُتل فالنس فى حربه ضد الفرس، وكان هذا تدبيراً إلهياً حتى لا تسفك دماء الأقباط مرة أخري. وهكذا كانت مصر تحمل النور للعالم رغم النار التى تحترق بها، وتنشر الحب رغم الشر المحيط بها، وتحمل القوة رغم محاولات إضعافها.


> كاهن كنيسة المغارة الشهيرة

بأبى سرجة الأثرية
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف