الأهرام
أمينة شفيق
الفساد. . مؤسسة
أعلم، كما يعلم غيرى أن النظام السياسى الحالى وكذلك الحكومة الحالية ليسا مسئولين عن حالة الفساد التى أدت إلى ميل هذا العقار المكون من 13 طابقا على مثيله المقابل له. العقاران المقامان فى حى الأزاريطة بالاسكندرية، عروس البحر الأبيض. . أو كما كانت فى الزمان السابق. ولا يفصل بين العقارين إلا شارع ضيق لا يزيد اتساعه على أربعة امتار. ويطلقون على العقار المائل تسمية «البرج» بالرغم من أن مساحته لا تزيد على 150 مترا مربعا.

أعلم ذلك، كما يعلمه غيري، ولكن الذى أصبو إليه كغيرى من المواطنين هو ان يتعامل النظام السياسى الحالى ومعه الحكومة بكل شدة مع هذه الحالة من الفساد الذى بات كالمؤسسة المسرطنة الكامنة فى جهازنا المحلى الحكومي. وهى ليست حالة فريدة فى المحليات وانما تتكاثر وتنتشر بداخله كما تتكاثر وتنتشر فى العديد من اجهزتنا الحكومية، حيث يكون تعامل الشعب يوميا للحصول على خدماته الحياتية.

لقد تم مأسسة الفساد فى العديد من اجهزتنا وخاصة فى المحليات. واعلم ان عبارة «مأسسة» ثقيلة على القارئ العادى ولكنها تعنى وتعبر بكل دقة عن هذا البناء الهرمى للفساد والذى يوجد فى اجهزتنا والذى يتشكل من قاعدة وقمة ويفصل بينهما عدد من المستفيدين الذين يفرضون عليه الحماية بل مضمون وروح القانون واللائحة او بالاستناد على السلطة الممنوحة لهم بحكم طبيعة المهنة او المنصب. وهى حالة فساد بدأت تتشكل فى بلادنا منذ أن اخذت الدولة بسياسة الانفتاح الاقتصادى ونمت نموا منتظما خلال الثلاثين عاما الماضية. ثم خرجت على المكشوف فى اثناء حالة الفوضى التى عمت البلاد بعد ثورة الخامس والعشرين من يناير.



والامثلة كثيرة وتعبر كلها عن حالة تسيب عام يتوارى فيها القانون وتنعدم فيها المحاسبة فتتكاثر وتنمو هذه المؤسسات المسرطنة التى تنهش فى مكون الدولة والشعب. والغريب اننا فى احيان كثيرة نراقبها فى الشارع. هكذا فى العلن حيث يقف الفقراء والمتعطلون يختلقون اى حرفة فى مقابل ضمان المساندة ممن هم فى المستوى الاعلى فى البناء الهرمي. ولكل مقابل مقابل آخر تماما كما حدث عندما انتشرت وامتدت المقاهى على طول الاحياء والشوارع متعدية على الارصفة ومساحات من الشارع وكأن ما تسمى بالمحليات غير موجودة ضمن النظام الادارى الحكومي. او كما يتم الحصول على تراخيص قيادة السيارات لمواطنين، لمجرد وصولهم للسن القانونية، دون خضوعهم لاختبارات القيادة فتقع كوارث المرور وتتحول مصر الى البلد رقم واحد فى حوادث الطرق.

وكان نشاط المقاولات وبناء العقارات و»الابراج» جزءا اصيلا من هذا النشاط اللاإنسانى الذى حرم الشعب المصرى من الحفاظ على مناطقه الأثرية وعلى امانه وسلامته وكما حرمه من الحصول على المسكن الصحى الملائم. وبتنا نعيش فى علب كبريت اطلق عليها، خطأ، تسمية شقق وليتها كانت تصمد امام الفساد ولا تنهار على اجسادنا.

لكن مع علمنا ان الحكومة الحالية ليست المسئولة عن حالة الفساد التى تسببت فى ميل «برج» الازاريطة إلا اننا نحملها مسئولية البدء الفورى فى علاج ما افسدته المؤسسات المسرطنة فى جهازنا الاداري. فهذه هى مسئوليتها الاولى خاصة فى هذا الجانب الذى يخص حقوق المواطن فى حماية حياته. لقد دلت التحقيقات على ان «برج» الازاريطة الذى بنى عام 2002 صدر ضده قرار ازالة عام 2004. وعندما اتجهت الجهات المسئولة عن الازالة رفضها السكان واسندوا قرار رفضهم على مسئوليتهم الخاصة. فتم اهمال القرار على اساس «مسئولية السكان الخاصة» الذين لا يفهمون فى الهندسة ولا فى التخطيط ويعتمدون على صاحب ملك جشع ومهندس غشاش ومقاول حرامي.

فى البداية لا يوجد فى القانون او فى الاعراف السياسية شيء اسمه «مسئولية خاصة» فى قضايا إنسانية حياتية مثل قضايا الازالة او فى قضايا المرور على سبيل المثال. فالدولة التى هى من صنع الانسان عبر تاريخه السياسى تقوم على مسئوليتها الاساسية هى حماية الانسان الذى صنعها. حمايته من اعدائه وكذلك من نفسه.

الخطوة الثانية التى لابد ان تتخذها الدولة والحكومة هى الاعتراف بعلم قديم اعترف به الخديو اسماعيل واخذ به وسار عليه عندما نزل من مقره، قصر الجوهرة، فى القلعة إلى قصر عابدين فى القاهرة. وهو علم تخطيط المدن الذى علمنا اياه، فى ذلك الزمان، مخططون ومهندسون ايطاليون، ثم تعلمه وأجاده المصريون وباتت تدرسه كليات الهندسة. ويعنى التخطيط أن توضع خريطة كاملة لنمو العواصم الحضرية يلتزم بها الجميع ويتعرف منها مالك الارض ومشتريها وطالب الترخيص والموظف المسئول عنه والمهندس مصمم البناية والمقاول المسئول عن البناء طبيعة المربع السكنى الذى يقام فيه المبنى وعدد الادوار المناسبة لمساحته ولعرض الشارع الذى يقام عليه. وهكذا يعلم الجميع الحقائق ويصبحون مسئولين عن احترامها فى التصميم والبناء، وإلا تعرضوا للمحاسبة العاجلة التى تسبق تسكين الشقق أو تسليمها. للحكومة ان تبدأ بوضع تخطيط لكل العواصم الادارية لتكون تحت يد العاملين فى الجهاز الادارى للمحليات. بناء على تخطيط كل مدينة يتم اعطاء تراخيص البناء على ان يعامل كل خروج عن التخطيط كجريمة تستحق الازالة الفورية بغض النظر عن «المسئولية الفردية». وفى هذا المجال تحترم الدولة الملكية الخاصة ولكنها فى ذات الوقت تحمى النظام الاجتماعى العام من الفوضى والعشوائية الفردية. سوف تأخذ هذه الخطوة وقتا طويلا ولكن لابد من البداية لتستكمل بعد ذلك على مراحل، من العواصم الكبرى إلى عواصم الأقاليم، فى هذه الحالة سنضمن اننا لن نشهد هذا المنظر الفريد لبرج الازاريطة.

المهم فى قضية عمارة الازاريطة ان تسمح التحقيقات فيها بالوصول إلى تركيبة إحدى المؤسسات المسرطنة فى جهاز الإدارة المحلية فى البلاد. فهذه البناية لم تقم بمخالفة فردية ارتكبها فرد واحد وإنما أقيمت وتم تسليم شققها بناء على تعاون عدة اجهزة مسئولة عن التراخيص وخدمات المياه والكهرباء والغاز. اتصور انها شبكة حقيقية لأن شركات تركيب الغاز، على سبيل المثال، لا تقوم بأعمالها فى أى بناية صدر ضدها قرار ازالة، فكيف تم دخول الغاز فى هذا البرج مع وجود قرار ازالة له منذ عام 2004؟

نريد الجدية فى تحقيق هذه الواقعة، وغيرها.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف