الوطن
نشوى الحوفى
صناعة الإحباط
أعلم بحكم الفهم والقراءة فى التاريخ أن الإحباط قرين للبشرية منذ خَلْقها، فالإنسان سريع الإصابة باليأس من ظروف تحيط به، أو أقدار تلم به، أو أشخاص يسيطرون عليه، ولكن أعلم أيضاً أن الإحباط صار صناعة على درجة عالية من الإتقان والدقة والحرفية فى أيامنا هذه، يمارسه أفراد ومنظمات وأجهزة ودول، وكل له أهدافه، وكل له مصالح تنطلق منها الصناعة.

دعونا نتفق على أن المعلومة هى أساس تلك الصناعة ومادتها الخام الأولى، تثير بها يأساً أو تنشر بها بُشرى. وفى جيل وُصف بأنه فى زمن حروب العقل، فقد باتت المعلومة من أساسيات صناعة الإحباط، ومن هنا نتوقف عند صناعة المعلومات ونشرها والتوعية بها ومَن الأولى بالقيام بها، فهى ليست مجرد حرفة تحتاج المصداقية والإلمام بأدوات المهنة، لكنها أمن قومى للدول لحماية وعى شعوبها وأمنهم النفسى من الانجراف وراء معلومات لقيطة وُلدت فى الحرام بلا مصدر تستند عليه، وتستطيع الطير فى فضاء تتخفى فيه وجوه وهمية لا يبحث أحد وراء مصداقيتها ولا أهدافها.

ومنذ سنوات بدأ العالم يمارس تلك الصناعة بحرفية عبر أفراد نجحوا فى كسب مصداقية أو جماهيرية أو قاعدة شعبية لأى سبب من الأسباب، سياسية أو فنية أو إعلامية أو حتى رياضية، ومن خلال هؤلاء يصبح كل ما يُقال روايات قابلة للتصديق ومعلومات متداولة وقصصاً يرددها الناس. وعبر بعض هؤلاء يمكن صناعة الإحباط دون أن يشترط هذا انعدام كل الحقيقة فى ما يقومون ببثه، بل من الممكن الاعتماد على ربع الحقيقة أو بعض منها، وبعلمهم أو عن جهل منهم، بإيهامهم أنهم باتوا قادة رأى يسيطرون على سوق الإعلان. ففى تنصيب الفوضى بين الشعوب علينا بث شائعات غلاء الأسعار، وفشل الأنظمة وفسادها وخيانتها، وتمكن طبقة من كل شىء، وحرمان باقى الطبقات من كل شىء، وقرب انهيار الدولة واضمحلالها، ولا مانع من زيادة الجرعة بالإعلان عن إجراءات سيدفع ثمنها المواطن، ومن ثم عليه النظر لما آل إليه حاله والثورة عليه. ولا مانع من إنكار كل ما تقدم أو تجاهله، والدفع بشخصيات لها القدرة على التحليل والتأثير بتفنيد أى دفوع تنفى ما يبثه الإحباط.

لكن علينا الاعتراف أن هؤلاء يخدمهم فئة أخرى تجيد تزيين كل شىء، وإنكار أى خطأ، وتجميل كل قبيح بمبررات تفقد الثقة فى كل شىء، ويساعد كلا الطرفين جهل تفشى بين الناس حتى وإن تخطوا الأمية، واستسلام لعناوين الأخبار من دون متنها، والسير دوماً خلف كل قائد من كلا الطرفين دون تفكير أو بحث أو حتى إعقال القضايا بميزان المنطق. وكل هؤلاء يعيشون تحت مظلة دولة تتغافل عن أهمية المعلومة وصناعتها وضرورة الهجوم بها لا انتظار الدفاع.. نعم عدنا لنقطة البداية مجدداً..صناعة الدول للمعلومات. علينا تذكر أمر هام آخر وهو أن صناعة الإحباط لا تتوقف عند حد مرتزقة الأوطان على كل لون، ولكنها تمتد أيضاً إلى صناعة الإرهاب والتطرف. فصناعة الإحباط أساس أى فكر شاذ وفعل إرهابى، فكل ما حولك حرام، وكل ما حولك يخالف العقيدة المروج لها، وكل ما حولك لا علاقة له بخلاصك أياً كان هذا الخلاص، وكل ما حولك لا يضيف لك، وكل ما حولك فاسد وزائف، بينما الحقيقة هى ما يمتلكه المتطرف الباحث دوماً عن آخر يسلط عليه كراهيته للحياة، أو يعلق عليه فشله فى عالم البشرية.

ومن هنا كانت أهمية حضور الدولة فى مقاومة الفساد أياً كان مصدره، وصناعة المعلومة القائمة على الحقيقة لحماية المواطن بها بنفس منطق حماية جهاز المناعة من هجمات فيروسات البيانات وتدمير العقول وإحباط النفوس. ومن هنا أيضاً كان دور كل فرد فى البحث عن المعلومة الحقة وتتبّعها لمقاومة صناعة الإحباط.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف