الأهرام
د/ شوقى علام
فتح مكة دروس فى التعايش والإنسانية
لا يعرف الإسلام في جوهره ولا في أحكامه إقصاء الآخر تحت أي صورة بل منحه حرية الاختيار بعد شرح الحقائق بطريقة قائمة على الدعوة والإقناع بالحكمة والموعظة الحسنة مع تعظيم المشترك القيمي والأخلاقي وإظهار قدر كبير من الاحترام المتضمن للتعارف والتعايش.

هذه معالم قطعية ثابتة جرى عليها العمل ولمسات حضارية راقية حصل بها الوفاء في السلم وفي الحرب على حد سواء، وهذا نجده ظاهرًا في فتح مكة المكرمة (رمضان 8 هـ/ ديسمبر- يناير 631م) بما يمثله من كونه واقعة تاريخية خالدة تحمل تعاليم نبيلة ينبغي مراعاتها عند التعامل مع الآخر.

ولطالما تعمد أهل مكة قبل هذه الواقعة الكبرى أن تكون العلاقة بينهم وبين المسلمين هي العداء والحرب الدائمة، ولم يكتفوا بإيذائهم وإخراجهم من أوطانهم وتحريز أموالهم، بل دأبوا على إعداد الجيوش وشحن النفوس ومعنويات أفرادهم بالكراهية والعداء مع إحكام الخطط والمؤامرات التي تكيد للنبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين، فكانوا يهاجمون المدينة المنورة أملا في استئصال المسلمين والحد من انتشارهم كما فعلوا في بدر وأُحُد والخندق.

ورغم أن المسلمين كانوا أصحاب ظفر ونصر مبين عليهم في مواقف كثيرة، فإنه صلى الله عليه وسلم كثيرًا ما كان يجنح إلى السلام وتحقيق الاستقرار وإقرار الصلح حيث انتظر عدوًا مرة حتى مالت الشمس فقام خطيبًا قائلًا: «أيها الناس، لا تتمنوا لقاء العدو، وسلوا الله العافية، فإذا لقيتموهم فاصبروا، واعلموا أن الجنة تحت ظلال السيوف»(متفق عليه)، وهو امتثال لقوله تعالى: (وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ)[الأنفال: 61].

ولقد وصلت حلقات هذا الصراع الدائر بين المسلمين وبين أهل مكة وحلفائهم إلى النزول على هذه الإرادة القاطعة، حيث جنحوا إلى توقيع صلح عُرف بمكان انعقاده فسمي بــ»صلح الحُدَيْبِيَة» حينما منعوا النبي صلى الله عليه وسلم ومن معه من أصحابه رضي الله عنهم من أداء العمرة، ورغم أن المسلمين في هذا الوقت كانت لهم القوة والمنعة في الجزيرة العربيَّة لكن النبي صلى الله عليه وسلم وعد بأنهم إن جاءوه بالصلح والسلام لَقَبِلَه منهم وأقره لهم، فكان الصلح على عشر سنين، ورضي النبي صلى الله عليه وسلم منهم بأثقل الشروط وأشدها؛ وذلك بالنظر إلى المصالح والمفاسد والمآلات.

لكن سرعان ما نقض أهل مكة وحلفاؤهم هذا الصلح ولجأت قبيلة خزاعة إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم وطلبوا منه النصرة والنجدة، فأجابهم النبي صلى الله عليه وسلم، وعليه قرر السير إلى مكة متواضعًا وكان قد أعطى رايته سعد بن عُبادة رضي الله عنه فبلغه صلى الله عليه وسلم أن سعدًا قال قبل أن يصلوا إلى مكة: «اليوم يوم الملحمة – يوم القتل -، اليوم تُستحَل الحرمة، اليوم أذل اللهُ قريشًا»!

فما كان منه صلى الله عليه وسلم إلا أن أمر بنزع الراية منه وأعطاها لابنه قيس رضي الله عنه، بل أعلن صلى الله عليه وسلم خلاف ما قاله سعد قائلًا: (اليوم يوم المرحمة، اليوم أعز الله قريشًا)، وقد تمم الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم الفتح دون قتال أو إراقة للدماء المعصومة أو انتهاك للحرمات والأعراض، مع عفو كامل وصفح شامل فقال: «اذهبوا فأنتم الطلقاء». ولم يجعل من مكة المكرمة غنيمة – وهو المنتصر - قليلا ولا كثيرا، لا بيتا ولا أرضا ولا مالا، ولم يسبِ من أهلها أحدا.

إن هذه الدلائل المتواردة والمواقف الخالدة للأمة تبرز سمات الانتصار في ميدان الحياة، ومظاهر النصر في ميدان الحرب مع الأعداء، حيث التحلي بالثقة والتواضع وحسن الوفاء والصبر والانتصار على حظوظ النفس، وفهم مراد الله تعالى من الخلق واحترام السنن الكونية وتقرير حقوق الإنسانية ومبدأ التعايش مع الآخر.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف