الأهرام
سمير الشحات
انتحار طالب ثانوى أم انتحار جيل؟
كانت مدهشة جدًا تلك الأزمة التى أحدثها سؤال لطلاب الثانوية العامة من مادة التاريخ، خاصة ذلك السؤال الذى جاء فى ورقة الأسئلة عن ثورة 30 يونيو، والذى كان نصه : «ماذا لو لم يلق الرئيس السيسى خطاب 30 يونيو«؟ البعض تحدثوا عن أنه سؤال فى السياسة وليس التاريخ بينما التعليمات الصادرة لواضعى الامتحانات تضمنت أن يبتعدوا عن السياسة !

أى سياسة فى مثل هذا السؤال؟ ألسنا نعيش كلنا الآن طلابًا وغير طلاب- تداعيات تلك الثورة المجيدة؟ ألسنا كلنا نكرر فى أحاديثنا ليل نهار كيف خرج الملايين من أبناء الشعب للتعبير عن فرحتهم بزوال حكم الإخوان؟ أليس طلاب الثانوية العامة جزءًا من هذا الشعب فلماذا لا يتحدثون عن ثورة لمسوها بأنفسهم قبل 4 سنوات ( يعنى عندما كانوا فى الصف الثانى الإعدادى)؟

ثم أليسوا على صفحات التواصل الاجتماعى يتحدثون بكامل حريتهم فيما يشاءون فلماذا إذا وصل الأمر إلى امتحاناتهم طلبنا منهم أن يكفوا ألسنتهم كأنما هم يعيشون فى بلد ثان غير بلدهم، أو على كوكب آخر؟ ثم أليسوا يتابعون على شاشات التليفزيون تلك المناقشات حامية الوطيس عن كل شىء فى البلد؟

تبرير وزارة التربية والتعليم كان مفاجئا، قالت إن السؤال إجابته موجودة أصلًا فى المنهج، ما يعنى أن واضع المنهج لم يجد غضاضة فى طرح القضية للنقاش، ليس باعتبار أن ثورة يونيو سياسة ( مع أنها سياسة!) ولكن باعتبارها جزءًا من تاريخ مصر المعاصر لا يمكن تجاهله.. والوزارة معها كل الحق. إذ كيف نتجاهل أحداث عايشناها كلنا، بل ونعيش نتائجها الآن؟

ما كل هذا الخوف والارتعاش كما لو كنا (عاملين عاملة)؟ وما هى السياسة أصلًا؟ أليست هى أحوالنا المعاشة وواقعنا اليومى؟ وهل إذا تحدثنا مثلًا عن نتائج حرب أكتوبر المجيدة وبطولات أبناء قواتنا المسلحة الباسلة نكون آنئذٍ نتكلم فى السياسة؟

إن الخوف من التعبير عن الرأى بحرية يرسخ ما كرسته مناهجنا الدراسية طوال السنوات الماضية من أن على الطالب حفظ ما فى الكتاب بالنص وعن ظهر قلب دون تفكير أو تحليل، وهذا بالضبط ما يسعى الدكتور طارق شوقى وزير التربية والتعليم إلى تغييره، وكم نادى الرجل حتى قبل أن يتولى الوزارة- بضرورة تغيير تلك المناهج البائسة والابتعاد عن التلقين والحفظ ، كى يكون لدينا تعليم ناجح يفيد الأمة المصرية ويبنى إنسانًا ناضجًا مدركًا لمقتضيات عصره، منفتحًا على العالم.

ولسنا نشك فى أن أشد ما يؤلم الوزير الآن ويؤرقه تلك الأخبار المتداولة عن انتحار طلاب وطالبات إثر خروجهم من الامتحانات. ما هذا.. كيف يؤدى التعليم الذى من المفروض فيه أنه بناء للحياة واحتفاء بها- إلى الموت؟

صحيح أن السياسة لها ناسها لكننا هنا نتحدث عن السياسة بمعناها الضيق المتخصص، أما الحديث فى الشأن العام للبلد الحياة اليومية للناس فلا غضاضة أبدًا فى التطرق إليه فى امتحاناتنا سعيًا لإنتاج جيل واعٍ قادر على بناء مستقبل مصر المنتظر.

نعرف أن الوزير يبذل جهدًا خارقًا هذه الأيام لتغيير تلك المنظومة الموروثة الجامدة، ونعرف أن المعوقات أمامه لا حدود لها، وأن ثمة من أصحاب المصالح من هم ضد جهود الرجل، لكن على الجانب الآخر فإن صرخات ودموع أبنائنا وبناتنا (والتى تبلغ أحيانًا حد انتحار الأبناء خوفًا من الآباء والأمهات) يجب أن تدفعه دفعًا إلى التغيير الذى ينشده.

ونحسب أن جانبًا من هذا التطوير يتمثل فى إلغاء ذلك الفكر العقيم بأن الطالب ليس مطلوبًا منه أن يفكر وهو يمتحن، وأن يلتزم بما جاء فى كتاب المدرسة حرفيًا، هذا يا ناس ضد منطق العصر والعولمة وثورة الاتصال والمعلومات وضد الإنسانية أصلًا، لأن الأصل فى الإنسان أن يفكر ويتدبر فى الكون المحيط به (وهذا للعلم ما أمرتنا به الأديان السماوية كلها).

يا خلق الله.. إن السياسة والتاريخ لا مشكلة فيهما، طالما أننا كمعلمين وتربويين وأسر- نعلم أبناءنا الفضائل والقيم الأساسية المتوافقة مع عاداتنا وأخلاقنا، لكن أن يصل الأمر حد معاقبة طالب لأنه تجرأ وتحدث عن ثورة 30 يونيو فهذا مما يثير الاستغراب.

طيب لو كان السؤال عن ثورة يوليو، أو عن هزيمة 67 ، أو عن اتفاقية السلام بين مصر وإسرائيل، أو حتى عن ارتفاع الأسعار بعد تعويم الجنيه فما المشكلة؟ أليسوا يقرأون عن كل هذا فى الصحف ويشاهدونه كل يوم فى نشرات الأخبار؟

يجب أن نتوقف عن تلك الحساسيات. وعلى فكرة- ولمن لا يدرى- فإن الإرهاب الأثيم الذى نعانى منه جميعًا هذه الأيام فى جانب منه ناتج عن تلك الطريقة العقيمة فى التفكير.. والتكفيريون المتشددون الذين يذبحون ويحرقون ويخربون الوطن هم نتاج لتلك المدارس الفكرية العقيمة القائمة على التلقين والحفظ على المتون، وإذا كنا جادين حقًا فى مقاومة الإرهاب فإن علينا تعليم أبنائنا كيف يفكرون حتى لو قالوا رأيهم فى ثورة يونيو.. أو غير ثورة يونيو؟

وعلى فكرة.. أبناؤنا أذكى كثيرًا مما نتصور نحن الآباء، وسيأتى عليهم اليوم الذى ينظرون فيه باستهزاء لطريقتنا العتيقة هذه فى التفكير، لأنهم ببساطة أبناء زمن غير زماننا.. فنرجوكم لا توقفوا حركة الزمن والحياة، فالحياة- شئتم أم أبيتم- لن تتوقف عندكم.. ولسوف تمضى.. فدعوها تمضى ( وبلاش تنشيف دماغ)!
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف