الأهرام
أحمد أبو الدوح
قطر.. تعديل السلوك أوالقفز فى الخليج
حشرت قطر في الزاوية. هذه خطوة تأخرت كثيرا، لكن لا بأس.. ممارسات قطر لم تترك خيارا أمام مصر ودول الخليج سوي معاقبتها. العقاب هذه المرة يبدو قاسيا ومستحقا. شعور مصر والسعودية والإمارات والبحرين يشبه شعور الزوج المخدوع طوال سنين طويلة.

خروج قطر عن الصف العربي كان قرارا داخليا. هذا القرار يتماهي مع عقلية الحكم التي جاء بها الجيل الثالث، جيل الشيخ حمد بن خليفة والشيخ حمد بن جاسم آل ثاني.

العلاقة بين هذين الرجلين شكلت مضمون الفكر الإخواني الذي صار منهجا سياسيا وأيديولوجيا للحكم. عندما تسمع الشيخ حمد بن جاسم، الذي كان يشغل منصبي رئيس الوزراء ووزير الخارجية، تشعر أن من يتحدث هو أحد قادة تنظيم الإخوان المسلمين. نفس اللهجة والألفاظ ونفس العقيدة والخيال. كاريزما الشيخ حمد وشخصيته الطاغيتان والبرجماتية الفجة التي يتحلي بها ساعدت علي تحويل هذا النهج إلي «حقيقة الحكم» في قطر.

رغم انزواء الشيخ حمد، استمرت قطر في السير وفقا للرؤية التي تصورها ووضع أسسها في الحكم. أمير قطر الحالي الشيخ تميم بن حمد تخلص من الشيخ حمد بن جاسم، ولم يتخلص من إرثه.

اليوم نحن أمام دولة هجينة. هي عضو في مجلس التعاون الخليجي لكنها تكن العداء والضغينة للخليجيين. قطر، الدولة العربية، صارت تخاف من السعودية أكثر من إيران، وتكره مصر أكثر من كرهها لإسرائيل، ولا تحب الإمارات مثل حبها لتركيا.

قطع العلاقات الدبلوماسية مع قطر يبدو بداية فقط. قرارات إغلاق المجال الجوي والبحري والموانئ وطرد القطريين تعني خسائر بمليارات الدولارات، وسمعة عالمية هوت إلي الحضيض، وفقدانا للثقة لا تبدو استعادتها قريبا ممكنة.

السعودية ومصر والإمارات والبحرين قررت عمليا وضع قطر في الزاوية. الحدود السعودية من خلفها ومياه الخليج أمامها. اليوم صارت قطر تعرف لأول مرة حجمها الحقيقي. الأمر يشبه غلق مصر لمعبر رفح في وجه حركة حماس المهيمنة علي قطاع غزة. السعودية تغلق «معبر رفح» السعودي أمام «قطاع قطر».

الظروف أيضا لم تكن في صالح هذه الدولة الصغيرة. ثمة شعور منتشر في الأجواء العربية يميل إلي الحسم في كل شيء. قمم الرياض الثلاث كانت أوسع باب لتحول جذري في رؤية الزعماء العرب لأنفسهم ولمحيطهم الإقليمي. في السابق كان الاعتماد علي الولايات المتحدة أحد المفاهيم الإستراتيجية الراسخة بين دول كانت تعمل علي بناء نوع من القوة المتراكمة، في السياسة والاقتصاد والتسليح والتجارة وسوق الطاقة والتعليم والتكنولوجيا.بعد انتهاء الزيارة التاريخية للرئيس الأمريكي دونالد ترامب إلي المنطقة، تحولت الدول العربية من مرحلة بناء هذه القوة الكبيرة إلي مرحلة استخدامها.

هذا زمن الاعتماد علي النفس. ليس ثمة خيار آخر أمام الدول العربية الكبري في المنطقة سوي التصرف وفقا لرؤي استراتيجية ذاتية، والتخلي عن الأفكار الأمريكية الجاهزة.

سلوك مصر في المنطقة هو تعبير عن هذه المرحلة الجديدة. في ليبيا صرنا نري استراتيجية واضحة ونتائج يتم تحقيقها علي الأرض، بدءًا من قصف درنة ثم تمكين الجيش الليبي من اقتحام الجفرة، وربما نري استهدافا للعاصمة طرابلس قريبا. هذا الحسم لم يكن مسموحا به إبان فترة الرئيس باراك أوباما.

اللهجة السعودية أيضا تشهد تغيرا جذريا. التعامل مع الحوثيين والإخوان المسلمين في اليمن يبتعد شيئا فشيئا عن المواربة والتردد ويقترب من الحسم. في سوريا يبدو الحل السياسي بعيدا من دون حل مشكلة الإسلاميين والتكفيريين أولا.

العامل المشترك الذي يتحكم في الفوضي إزاء كل هذه الملفات (من ليبيا إلي اليمن إلي سوريا) هو الدوحة. مشكلة قطر ليست في صعود ترامب وحسب، ولكن في تغير نهج الحكم في الدول الكبري المحيطة بها. الأمر يحتاج إلي مقارنة بسيطة بين أزمة سحب السفراء عام 2014 وعقاب اليوم كي يتضح الفارق الكبير في فهم القادة العرب للمرحلة التاريخية التي تمر بها المنطقة.

قبل ثلاثة أعوام كان الملك عبدالله بن عبدالعزيز لايزال يحكم في السعودية، وكانت مصر قد خرجت للتو من مخاض ثوري عنيف إثر الإطاحة بنظام الإخوان المسلمين. النهج التقليدي في رؤية الملك عبدالله كان مكملا لسياسات السعودية المتحفظة، واهتزاز مصر وضعفها جعلا الإمارات تبدو وحيدة في مواجهة الإسلاميين في كل أنحاء المنطقة. الإمارات كانت تعمل إلي آخر حدود قوتها، وكانت تحتاج إلي تخلي أحد هذين القطبين الكبيرين عن تحفظه، وتعافي الآخر من كل الأمراض التي لحقت به. في النهاية عاد السفراء الخليجيون إلي الدوحة، لكن الثقة لم تعد معهم.

اليوم التعامل مع الأزمة يبدو مختلفا تماما. ثمة تعبير عن طبيعة الشخصيات الحاكمة والتطابق في المزاج السياسي بينها والميل إلي الحسم في كل من مصر والسعودية. الإمارات كانت قد سبقت مصر والسعودية إلي تبني رؤية لا يشوبها التباس في تحجيم الإسلاميين والمتشددين منذ ما قبل اندلاع ثورات «الربيع العربي».

اليوم نحن أمام مثلث يشكل الرئيس عبدالفتاح السيسي وولي ولي عهد السعودية الأمير محمد بن سلمان وولي عهد أبوظبي الشيخ محمد بن زايد أضلاعه الثلاثة. هذا المثلث هو قاعدة المشروع العربي الجديد في المنطقة.

بناء هذا المشروع، كي يكون قادرا علي منافسة المشروعين الإيراني والتركي، يتطلب أولا التخلص من أذرع إيران وتركيا في المجال الحيوي والإستراتيجي للعرب. قطر هي «السمسار المزدوج» لكلا المشروعين معا.

كيف تستطيع دولة بهذا الحجم وهذه الإمكانيات البشرية والجغرافية والعسكرية الضئيلة، وبناتج قومي ووزن إستراتيجي متواضعين أن تحلم بتقديم خدماتها في نفس الوقت لإيران وتركيا والولايات المتحدة وإسرائيل، والله أعلم من أيضا؟!

كم يبلغ حجم المليارات التي أنفقت في سبيل تعزيز هذه الخيارات المتناقضة؟ وكم من الأرواح زهقت في مصر وسوريا والعراق واليمن وليبيا كي تشعر قطر بأنها حققت ما ترنو إليه؟

حان الوقت كي تدفع قطر ثمن كل هذه الأخطاء المتراكمة. الإجراءات المصرية الخليجية تشبه تقييد قطر وقيادتها إلي غرفة التحقيق في كل ما قامت به منذ انقلاب الشيخ حمد بن خليفة علي والده عام 1995. الآن علينا أن نجلس ونستعيد ماضي قطر ونبحث في سجلاتها ونترحم علي دورها.. في انتظار الحكم.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف