الأهرام
د. نصر محمد عارف
مَنْ يلعب بمَنْ؟
فى أكثر اللحظات نشوة بالنصر والإنجاز تكون أمتنا فى أضعف أوقاتها امام من يلعب بمصيرها، ويتلاعب بمجتمعاتها، ويوظفها لتحقيق مصالحة بأيدينا، دون تدخل ظاهر، ودون مؤامرة او تآمر، دائما تكمن خلف نشوة الغرور أشد منحنيات الضعف، والقابلية للتوظيف والاستخدام والتلاعب.

أدرك العالم المحيط بنا أن هذه الأمة العربية تسير طبقا لقانون ابن خلدون، وأن العصبية هى جوهر العملية السياسية، والعصبية هنا لا تعنى الانتماء، وإنما تعنى تماسك بعض مكونات المجتمع فى صورة قبائل أو نخبة أو «شلة»، وأن هذه الأمة كما يقول ابن خلدون لا تخضع لمُلك إلا بصبغة من نبوة أو ولاية، أى أنه لا يمكن إخضاعهم إلا من خلال الدين بالحق أو بالتوظيف، لذلك فشلت جميع محاولات اختراق الأمة العربية بالدعوات غير المتوافقة مع الدين، فشلت كل الايديولوجيات الحديثة فى أن تخترق المجتمع وتحقق فيه وجوداً مؤثراً، ونجحت كل حركة توظف الدين بالحق أو بالباطل فى أن يكون لها وجود ملحوظ ومؤثر فى بنية المجتمع وحركته.

فبتوظيف الدين تم التلاعب بهذه الأمة وإرباكها وتشتيتها، وحرفها عن مستقبلها، وإدخالها فى أنفاق متتالية من الظلام والرجعية والانحطاط، ثم التطرف والعنف والإرهاب، وأخيرا الوحشية البهيمية التى باتت تريق دماء الأطفال فى بريطانيا وصعيد مصر طمعاً فى تناول الفطور فى الجنة مع الحور العين.

ودائما كان هناك من الدعاة والمنتسبين لعلوم الدين من يقوم بتخدير الشباب ودفعهم كالقطيع فى الاتجاه الذى يريده اللاعبون أو المتلاعبون بمصائر مجتمعاتنا، ودائماً كانت المخدرات جاهزة فى صورة خرافات وأوهام ووعود وتمنيات، فمن ملائكة تقاتل مع الأفغان، إلى خاتم المرسلين يصلى مع محمد مرسي، ومن الحور العين إلى السبايا والإماء وجهاد النكاح، وسائل التخديروالاستضباع جاهزة، الضبع الذى يتلاعب بمصائرنا يخدرنا فنسير خلفه سكارى حتى الوصول إلى المكان والزمان والحالة التى يتلهمنا فيها بصورة هادئة مريحة، ودون مقاومة. لن نتكلم عن التاريخ البعيد أو القريب، وإنما سنركز على الحاضر الذى عشناه ولم نزل نعيشه، ولا نحتاج لوثائق تاريخية لفهمه وتأكيده.

ولنبدأ بالجهاد الأفغانى ضد الاتحاد السوفيتى بعد 1979.. أوضح نماذج اللعب بأمة كاملة من طنجة إلى جاكرتا، ومن غانا إلى فرغانة، أمة تم استبلاهها، فصارت جيوشاً من البلهاء، تحركها مجموعة صور، وخطبة عصماء من بلهاء العلماء، اندفع الشباب من جميع الدول الإسلامية بدعم من حكومات وأجهزة مخابرات، وتمويل من أثرياء ورجال أعمال، وتبرعات فقراء، لخوض حرب لا يعرفون عنها إلا أنها هى الجهاد، لأول مرة تقوم دول ذات سيادة بدفع شبابها للقتال خارج أوطانها، وتحت رايات غير راياتها، وبعيداً عن جيوشها ونظامها.

هنا بدأت الكارثة الكبرى التى تم من خلالها اللعب بمجتمعات العالم الإسلامى حتى اليوم، قتال وجهاد ونضال للدفاع عن أرض ليست أرضي، ووطن ليس وطني، ودولة ليست دولتي، وعدو ليس عدوي، بل عدو صديقى اللدود، الذى يريد التخلص منه ليأكلنى منفرداةهكذا كانت حقيقة الجهاد الأفغاني، الذى أسهم بحظ وافر فى تفكيك الاتحاد السوفيتى أولا، ثم أفغانستان ثانيا، ثم باقى العالم الإسلامى بعد ذلك، وخرج الصديق اللدود اللاعب الماهر العم سام من تلك اللعبة منتصراً، متفرداً بالعالم، ثم بعد ذلك حول أدواته الجهادية لتحقيق كل الخطط والاستراتيجيات فى الشرق الأوسط ثم وسط آسيا، وأخيرا إفريقيا، لأنه من رحم لعبة الجهاد الأفغانى خرجت كل جماعات مصاصى الدماء من القاعدة إلى داعش وبوكوحرام.. الخ.

وكانت اللعبة الثانية: النموذج التركى الذى أعاد تركيا إلى حضن الإسلام، ومثل انتصاراً على العلمانية الكمالية المتوحشة التى ظلت تعادى كل ما له علاقة بالدين من الحجاب إلى تعليم القرآن لثلاثة أرباع القرنة ..هلل العرب والمسلمون فرحا بأردوغان، الذى إحتل مكانة «مهند» ولكن فى السياسة، فصار «مهند السياسة»، معشوق شباب الحركات الإسلامية، يدينون له بالولاء أكثر من حكامهم وحكوماتهم، يحلمون باليوم الذى يضمهم أردوغان إلى سلطنته، تنتشر صورته فى مواقع التواصل بدلا من صور أصحابها، دلالة على استبداله بالذات والهوية الشخصية، تم استنساخ حزبه فى دول كانت بعيدة عن التأثير العثمانى كالمغرب، وفجاة نتكشف أننا لعبة، يتلاعب بنا من يملك معرفة أكثر، وقدرات أكثر، وذكاء أكثر، أردوغان هو أتاتورك الإسلاميين، هو طورانى قومى متعصب، يلبس مسوح الدين مثل الزينى بركات لخداعنا، واستضباعنا، وتحقيق الحلم التركى على أشلاء أطفالنا، وإعادة العثمانية من جديد بعد تدمير مجتمعاتنا وتفكيك أوطاننا، أردوغان مجرم مثل أى مستعمر من وحوش القرن التاسع عشر، ولكنه يلبس مسوح التدين الزائف لتخديرنا، لأنه تعلم من كارل ماركس أن التدين هو أقوى أفيون لتخدير الشعوب.

وأخيراً جاءت اللعبة الثالثة: الخريف العربى المشئوم الذى كنا نظن أنه ربيع عربى يؤذن بالخير والنماء، جميعنا هللنا لثورات الربيع العربي، جميعنا ذبنا حباً فى شباب طاهر نقي، وقف فى وجه الفساد والإستبداد، جميعنا كنا نظن أن هذه الثورات ستنقلنا إلى عالم جديد، نموت فى ظله مرتاحى البال على مستقبل بلادنا..ولكن لأننا فى الموقع الأدنى علميا وفكريا وسياسيا وحضاريا، كان هناك من يجلس فوق التل يراقبنا بدقة شديدة، ثم يلقى خيوطه على من يعرف منا، ويربطهم بعصا «الماريونيت»، ثم يحركهم كيفما يشاء، فانتهت أحلامنا بكوابيس فشل سياسي، وقيادات ساذجة، وحكم جماعات دينية مريضة بكل عقد التاريخ، وسيطرة هواة مقامرين بلا خبرة، ثم إرهاب وعنف، وتفجير لكل تاريخ العيش المشترك، وحروب أهلية، تفكك المجتمعات، وتدمر المدن، وتقضى على الدول، وتعيدنا للوراء قرونا.

وللأسف كان من بيننا صبى مغرور يجمع الكور للاعبين المحترفين، انخرط فى اللعبة وتآمر على الجميع، واستخدم كل ما يملك لضمان تحقيق التدمير الكامل للدول والمجتمعات التى دخلت فى خارطته أو خارطة من يحركهة وفجأة نجد محمد على باشا يدور فى قصر الوجبة على أطراف مدينة الدوحة مشبكاً يديه خلف ظهره يردد.. «هو مين بيلعب بمين»؟.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف