الوطن
محمود الكردوسى
عن صناعة العدو فى السينما الأمريكية (2-2)
فى عام 1949 بدأت مرحلة تحول فى تناول الزنوج فى السينما الأمريكية، من خلال أربعة أفلام ضخمة رشح أغلبها لجوائز أوسكار، وهى (منزل الشجاع)، إخراج مارك روبسون، ويروى قصة الجندى الأسود «موسى» الذى حقق بطولات مجيدة فى الباسيفيك خلال الحرب الثانية، و(الحدود المفقودة)، إخراج ألفريد ووركر، ويتناول فى أسلوب شبه تسجيلى قصة عالمة زنجية عايشت البيض أكثر من ربع قرن، و(طفيلى فى التراب) الذى أخرجه كلارنس براون عن قصة لوليام فوكنر، ويتناول حياة الزنوج المأساوية فى الجنوب المتعصب، وأخيراً (بيانكى)، إخراج إليا كازان، ويروى قصة فتاة زنجية ولدت بيضاء البشرة وتقع فى حب شاب أبيض فى الجنوب، وسرعان ما تنفصل عنه عندما تصطدم بالواقع العنصرى هناك. وقد اعتبرت هذه الأفلام رد اعتبار للزنوج من قبل بعض النقاد، لكن البعض الآخر رأى أنها تدافع بثبات عن وجهة نظر الطبقة الحاكمة البيضاء وتنكر الوجود الموضوعى لمشكلة الزنوج وتصور تعدى البيض على الحقوق الأساسية للسود فى إطار أخلاقى.

وفى 1954 أصدرت المحكمة العليا الأمريكية حكماً بالمساواة فى التعليم فى المدارس بين البيض والسود، وكان ذلك بداية اهتمام منتجى هوليوود بمشاكل الزنوج، وشجعت الحملة، التى قادها مخرجون كبار مثل ستانلى كرامر وإليا كازان وأوتو بريمنجر ضد عنصرية المجتمع الأمريكى، على فضح هذه العنصرية، وبأكثر من طريقة فى التناول. وتدريجياً.. بدأ الأمريكى الأسود يقترب من صدارة الكادر، وبدأ تراث الزنوج الموسيقى يقتحم السينما الأمريكية بوصفه أحد أهم مكوناتها، كما ظهر نجوم سود كثيرون، بعضهم اضطلع بأدوار البطولة فى أفلام مهمة مثل «سيدنى بواتييه» الذى كان أول ممثل زنجى يفوز بجائزة الأوسكار، لكن حتى بروز بواتييه على هذا النحو لا يعنى أن صورة الزنجى فى الفيلم الأمريكى قد أصبحت إيجابية تماماً، إذ يرى بعض النقاد أن شخصيته السينمائية الجذابة غطت فى الواقع على استغلاله من قبل صانعى الأفلام لعرقلة النشاطات الإيجابية للزنوج سواء كانت نشاطات اجتماعية أو راديكالية، بحيث أصبح بوقاً دعائياً لكل ما هو مزيف لقضية السود، وفى أفضل الأحوال كان شخصية استثنائية استطاعت أن تهرب من شرط حياتها البائس عن طريق السلم الاجتماعى، أو أن تجد ذاتها فى ظل توافقها مع شخصيات وقضايا أخرى لا تمس جوهر وجودها.

والواقع أن إلحاح السينما الأمريكية على تقديم الهندى الأحمر أو الزنجى بوصفه عدواً تقليدياً لم يخف إلا بظهور أعداء آخرين. حدث ذلك بصورة مكثفة أثناء وبعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، حيث أصبح النازى عدواً نموذجياً، مثيراً للسخرية والازدراء، فى عشرات الأفلام التى تناولت هذه الحرب، لكنه سرعان ما تراجع مفسحاً الكادر لعدو جديد أفرزته الحرب الباردة هو «الشيوعى»، وأضيف إليه «الآسيوى»: فيتنامياً كان أو كورياً. ويضيق المجال هنا عن حصر أو تفنيد الأفلام التى تناولت هذه النماذج الثلاثة، لكثرتها من ناحية ونمطيتها الشديدة من ناحية أخرى، لكن يمكن القول إن موجة الأفلام التى ظهرت فى السبعينات بهدف إعادة النظر فى الدوافع السياسية والعسكرية التى كانت سبباً فى كارثة فيتنام مثل (العودة إلى الوطن) و(صائد الغزلان) و(نهاية العالم الآن).. هذه الموجة سرعان ما أجهضتها تلك النعرة الريجانية (نسبة إلى الرئيس رونالد ريجان) التى برزت فى الثمانينات وأطلقت من جديد فكرة «العدو» لتبرير السياسات العدوانية للإدارة الأمريكية فى تلك المرحلة. وعلى هذه الخلفية كان لا بد من ظهور أبطال جدد يعيدون إلى المواطن الأمريكى ثقته فى نفسه وفى كونه «أمريكياً» بالأساس.. تلك الثقة التى زعزعتها كوارث الجيش فى فيتنام وكوريا، كما زعزعتها فضائح الحرب الباردة وما ترتب عليها من ملاحقات وخيبات على الصعيد الداخلى. لقد أصبح البطل فى السينما الأمريكية أسطورياً بالفعل: السواعد الضخمة المفتولة بعناية، والصدر المتسع، والمهارة الفائقة، الممزوجة بقسوة وشراسة بالغتين، فى إطلاق النار على عدو لا يقل دموية.. لكنه لا يخلو من حمق وسذاجة. ومع أننى أشك فى أن أياً من الممثلين الذين لعبوا أدوار البطولة فى هذه الأفلام كان مدركاً تماماً للرسالة السياسية التى يعبر عنها.. فإن أياً منهم لم تكن تنقصه الجاهزية، فهم إما أبطال فى لعبة كمال الأجسام مثل أرنولد شوارزنيجر، أو لاعبو كاراتيه مثل شاك نوريس، أو ملاكمون هواة مثل سلفستر ستالون. وقد حققت أفلام مثل (رامبو) و(روكى) و(كوماندو) و(غزو الولايات المتحدة) و(مت بصعوبة) وغيرها.. إيرادات هائلة فى ذلك الوقت، ولعبت دوراً بالغ الأهمية فى إذكاء الطابع الدعائى للسياسة الخارجية الأمريكية، لكن الأهم أنها مهدت الطريق لظهور عدو جديد هو «الإرهابى» الذى لا بد أن يكون هدفه فى النهاية إلحاق الأذى بحضارة أمريكا. وهو أحياناً أمريكى لاتينى، وأحياناً روسى، وربما آسيوى، لكنه أصبح -منذ تسعينات القرن الماضى تحديداً- عربياً، مسلماً، فى الغالب، وإن كان نموذج العربى المتخلف، العدوانى، الغارق فى طقوسه وملذاته الحسية.. قديماً قدم صناعة السينما فى أمريكا.

هناك عشرات المئات من الأفلام التى مهدت لهذا النموذج، غير عابئة بأى احتجاجات أو حتى حسابات مصالح، ووجد السينمائيون الأمريكيون فى قصص «ألف ليلة وليلة» ورومانسيات الصحراء بالذات مادة ثرية لهذا الغرض. غير أن هذا النموذج -وإن كان قد ظل هامشياً فى معظم هذه الأفلام- كان لديه من المقومات الدرامية ما يرشحه ليكون «عدواً» محتملاً للأمريكيين. وهكذا ما إن خلت الساحة من «أعداء» حتى تم تصعيده ووضعه فى مرمى نيران البطل الأمريكى. وعندما وقعت أحداث الحادى عشر من سبتمبر لم يهدر الأمريكيون الوقت بحثاً عن «مجرم»، وبادرت الإدارة السياسية إلى إعلان مسئولية أسامة بن لادن وتنظيم القاعدة عن هذه الأحداث، وبدأ الإعداد لحرب طويلة على ما سمى بـ«الإرهاب». وفى غضون ذلك علت أصوات -داخل أمريكا وخارجها- تطالب بالالتفات إلى مسئولية الأمريكيين أنفسهم عما حدث، وضلوعهم فى صناعة هذا الإرهاب على المستويين: الواقعى (فى إشارة إلى تبنى المخابرات المركزية لبن لادن والقاعدة إبان الاحتلال السوفيتى لأفغانستان)، والسينمائى، بفضل إصرار هوليوود على تنميط صورة «العربى المسلم» وتقديمه بوصفه كائناً عدوانياً، معادياً للحضارة.

الواقع أن إلحاح السينما الأمريكية على تقديم الهندى الأحمر أو الزنجى بوصفه عدواً تقليدياً لم يخف إلا بظهور أعداء آخرين. حدث ذلك بصورة مكثفة أثناء وبعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، حيث أصبح النازى عدواً نموذجياً
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف