الأهرام
احمد عبد المعطى حجازى
الأستاذ الإمام.. الآن!
لا أظن انى سأضيف جديدا لما قدمه الذين سبقونى للكتابة عن هذا الرجل الذى استطاع بعلمه وخلقه وعمله أن يحظى بهذا اللقب المهيب
الذى أصبح كأنه اسم من أسمائه: الأستاذ الإمام. لكنى أكتب اليوم عن محمد عبده لأذكر به، أو بتعبير أصح لأذكر نفسى وأذكر غيرى بحاجتنا الملحة إليه. فإذا وفقت لذلك فهو سبب كاف للكتابة عنه.

وأنا أعرف أن اسم محمد عبده لم يغب عن ذاكرتنا فى يوم من الأيام منذ اتصلت حياته بحياتنا. لكننا نذكر اسمه ونطبع مؤلفاته ومؤلفات الذين كتبوا عنه وقد نقرأها أو يقرأها بعضنا، لكن المناخ السائد يقوم سدا حائلا بيننا وبينها. كتابات يعود بعضها إلى الربع الأخير من القرن التاسع عشر وأكثرها إلى النصف الأول من القرن الماضي. وهى تدور حول أفكار وتتحدث عن وقائع أصبحت بالنسبة لنا ماضيا بعيدا انقطعنا عنه ولم تعد لنا الآن صلة به. ثورتنا على حكم الاستبداد وعلى الاحتلال الأجنبي، ونضالنا من أجل الاستقلال والدستور وتحرير المرأة، ودفاعنا عن العقل وعن حرية التفكير والتعبير والاعتقاد. ماض اجتهد الطغاة المتعاقبون فى نفينا منه واقصائنا عنه. فلم نعد نعرفه، ولم نعد نتذكره. والدليل على هذا أننا نتحدث عن تجديد الخطاب الدينى كأنه احتياج مفاجيء أو مطلب لم يخطر لنا من قبل ولم يتحقق منه شيء على يد محمد عبده أو على أيدى تلاميذه الذين تعلموا منه وحملوا رسالته وواصلوا السير فى طريقه من أمثال سعد زغلول، وقاسم أمين، وعلى عبد الرازق، وطه حسين، ومحمد فريد وجدى وسواهم ممن نعرف أسماءهم ونذكرها فى أحاديثنا، لكننا نتجاهل أعمالهم فلا نواصلها ولا نستكمل ما يجب أن نستكمله، ثم زدنا على ذلك فتراجعنا عما حققناه فيها ونسيناه كأنه لم يكن. وما علينا إلا أن نقارن بين ما كنا عليه فى عشرينيات القرن الماضى وثلاثينياته وأربعينياته وما صرنا إليه الآن.

...............

فى عشرينيات القرن الماضى استطاع على عبد الرازق ومن وقف معه من المثقفين والسياسيين أن يقنعوا المصريين بأن إحياء الخلافة وتنصيب الملك فؤاد أميرا للمؤمنين عبث لا طائل وراءه ومحاولة خبيثة لهدم الدولة الوطنية والنظام الديمقراطي، فالاسلام كما بين على عبد الرازق فى كتابه الشهير »الاسلام وأصول الحكم« دين لا دولة. والسلطة فى الاسلام سلطة مدنية لا دينية. وقلب المسلم هو مرجعه الوحيد فليست فى الإسلام سلطة دينية.

هذه الثقافة التى بشر بها محمد عبده وتلاميذه وتبناها المصريون ودافعوا عنها فى عشرينيات القرن الماضى تراجعت لتحل محلها ثقافة الإخوان وغيرهم من جماعات الإسلام السياسى ولتتحول شعارات هذه الجماعات الإرهابية فى السنوات الأخيرة إلى واقع سياسى موبوء وإلى خطر مدمر لم نتخلص منه ولم نجتث جذوره حتى الآن.

...............

وفى عشرينيات القرن الماضى استطاع طه حسين أن يحقق الفصل الضرورى بين البحث العلمى والاعتقاد الدينى وأن ينظر فى الشعر الجاهلى نظرة تحرر فيها من الروايات والمسلمات المتوارثة التى ربط فيها القدماء بين الدين من ناحية، واللغة العربية والشعر القديم من ناحية أخري، وأثبت فيها أن أكثر الشعر المنسوب للجاهلية منتحل صنعه الرواة بعد الإسلام ونسبوه للجاهلين ليتكسبوا به أو لينصروا رأيا على رأي، أو جماعة على جماعة كما فعل بعضهم فى الأحاديث التى وضعوها ونسبوها للرسول. ومن الطبيعى أن تشعر القوى المحافظة بالقلق لأنها أسست وجودها على التسليم الكامل بما ورثته من الأجيال السابقة وهو ما تلقنه للأجيال اللاحقة، وأن تتهم طه حسين بالطعن فى النصوص الدينية فيستدعى للتحقيق ويبرأ من التهمة لأن الدستور ينص على حرية الرأي، ولأن طه حسين ذكر ما ذكره فى إطار «البحث العلمى معتقدا أن بحثه يقتضيه». فإذا قارنا بين ما حدث لطه حسين وما حدث ويحدث فى أيامنا هذه لفرج فودة، ونجيب محفوظ، ونصر حامد أبوزيد، وإسلام بحيري، ومحمد ناجي، وغيرهم فسوف نعرف سر الخلط الذى استشرى فى العقود الأخيرة بين الدين والعلم، وأصبح تجارة رابحة لها فى مصر وكلاء ومتعهدون، ونعرف الأسباب التى أدت إلى انحطاط التعليم فى بلادنا.

...............

وفى عشرينيات القرن الماضى تحررت المرأة المصرية بعد عشرين عاما من صدور مؤلفات قاسم أمين التى أعلن فيها أن مصر لن تتحرر ولن تتقدم إلا إذا تحررت المرأة المصرية التى ظلت سجينة بيتها يعاملها الرجل كأنها جارية مملوكة لا عقل لها ولا سلطان على نفسها، وإنما هى جسد مثير يطفئ شهوته، وينجب له الأطفال الذين ينشأون فى هذا الجو ويتلقون هذه التربية التى تهيؤهم لأن يكونوا رعايا مستعبدين لا يستطيعون أن يتحرروا وأمهاتهم مستعبدات لآبائهم، وآباؤهم مستعبدون لحكامهم، فلابد أن تتحرر المرأة لكى يتحرر الرجل ويتحرر المجتمع كله.

والمرأة لا تستطيع أن تمارس حقها فى الحرية من وراء حجاب. لأن الحجاب ينفى الحرية ولا يصون الفضيلة، بل هو عامل من عوامل الإثارة الجنسية لأنه يختزل المرأة فى جسدها، ويلفت النظر لما يحاول إخفاءه. وقد تجد المرأة نفسها مضطرة للاعلان عن أنوثتها المقموعة بصورة تجعل الحجاب أكثر إثارة، وربما تحول الحجاب إلى ساتر للانحراف الذى ينزلق إليه من تمنعه نظرات الآخرين ولا تمنعه نفسه.

هذه القضية التى تبناها قاسم أمين وأصدر فيها كتابين شارك فى تحريرهما الأستاذ الإمام أصبحت فى المناخ الذى هيأته ثورة 9191 قضية مصر التى كانت تتحرر كلها وتقف شامخة سافرة بجانب أبى الهول كما نرى فى تمثال مختار الذى أزيح عنه الستار هو أيضا فى عشرينيات القرن الماضي.

هل نحن فى حاجة لنقارن بين وضع المرأة فى عشرينيات القرن الماضي، ووضعها الآن حتى نتذكر محمد عبده، ونتذكر قاسم أمين، ونتذكر هدى شعراوي، ونتذكر درية شفيق، ونعرف أن ما قدمه لنا هؤلاء منذ مائة عام هو ما نلح فى طلبه الآن؟!
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف