الأهرام
عزت السعدنى
لنصلى معا.. إجلالا واحتراما لأجمل قصة حب!
اسمحوا لى أن أصدقكم القول.. فإن ايزادورا هى حقا وصدقا.. أشهر العاشقات فى كتاب الموت عشقا وصبابة.. وهى حقا وصدقا أشهر من أحبت حتى الموت فى التاريخ المصرى كله.. ويكفى أن قصة حبها مازالت تتردد فى سمع الزمان على السنة الشعراء فى أشعارهم والرواة فى مجالسهم والضاربين بالموال والعازفين على الناى على شاطئ النيل.. وعند السواقى التى «مانامت من كام ألف عام».. والمنشدين على الربابة فى الموالد والأعياد فى طول مصر وعرضها.. وكانت قصة حبها تتردد كل ليلة على لسان شعراء المقاهى فى الليالى الهنية قبل ظهور المذياع والتلفاز بزمان طويل.. وإذا كان الرواة والشعراء والقصاصون وكتاب المآسى وحكاوى الموت عشقا وتدلها.. ولايعترفون ومعهم من يسمعوهم حتى الصباح.. إلا بقصص الحب وروايات العشق.. وتلك التى انتهت بموت العاشقين مثل روميو وجوليت درة إبداع عمنا شكسبير..

فإن حكاية حب هذه الصبية الرومانية التي اسمها ايزادورا لحبيبها الجندي المصري الأسمر الوجه والذي اسمه حابي علي اسم نهر النيل نفسه.. والتي جرت وقائعها قبل نحو 21 قرنا من الزمان.. هي الأقدم عشقا.. والأقدم تضحية.. والتي يحفظها العاشقون والعاشقات عن ظهر قلب..

.............................

.............................

قلت في نفسي: مادام عميد الأدب العربي قد بني استراحته إلي جوار قبر ازادورا.. وكان يناجيها كما قال كل ليلة، وفي الصباح يضع علي قبرها زهورا حمراء اللون.. فلماذا لا أذهب أنا إليها.. وأتحدث إليها.

أتسلل وحدي إلي استراحة الدكتور طه حسين عميد الأدب العربي وهو من قد خرج إلي الدنيا هنا في المنيا. ولد بها وعاش صباه كله الذي رواه في رائعته الأيام وكان يجيء إلي هنا ليخلد إلي الهدوء والراحة والتأمل وقد بنيت خصيصا له ليمضي بها شهرا كل عام في تونا الجبل.

علي بعد أمتار تطل علينا دار ايزادورا.. أجلس صامتا ساكنا كراهب مصري قديم يؤدي صلاة صمت واستغراق بعيدا عن منغصات الدنيا ونواكب الأيام وخطايا السنين وتزاحم الخلق وتنافرهم وتدافعهم وكرههم بعضهم البعض.

يمر أمام عيني طابور العاشقين المحبين الذين انتهت قصة حبهم بمأساة.. بالفراق أو بالموت.. بداية بروميو وجوليت ونهاية بايزادورا وإن كانت فتاتنا الجميلة تسبق جوليت بألفي سنة.. فهي واحدة من أخلد قصص الحب في التاريخ كله.

بينما أنا غارق في تأملاتي .. والمكان ساكن هادئ لا صوت إلا حفيف أوراق الشجر.. إذ بيد رقيقة تربت علي كتفي برفق وصوت بلا بلي النغمة يقول: لقد جئت تسأل عني؟

التفت خلفي لأجد وجها صبوحا كما البدر يطل علي بجماله الإغريقي الآسر وكأن كليوباترا قد بعثت من جديد .. العيون فيها زرقة البحر، والفم رفيع، والأنف يتحدي، والشعر جدائل منظومة كأنها قصيدة شعر عاشق ولهان تحيط بالوجه وتنسدل علي الكتفين .. رداؤها أكاد اعرفه من طول ما شهدته علي أجساد الحسان والصبايا الملاح في رسوم ونقوش وتماثيل جميلات الإغريق والرومان في متحف الإسكندرية .. غادة الحسن طابعها والجمال يثني علي جمالها نفسه .. وردة حمراء في يدها .. وعقد قصير من اللؤلؤ يحيط برقبتها.

قلت: دون أن أدري: يا سبحان الله .. من أنت ياصاحبة كل هذا الجمال والدلال والفتنة؟

قالت: ألا تعرفني .. لقد كنت تبحث عني .. وسافرت وقطعت المسافات الطوال من أجل أن تراني!

قلت: وقد تنبهت من توهاني: ايزادورا .. وهل هذا معقول!

قالت: لقد نزلت إليك لتراني وتسمع حكايتي .. وتحكيها للناس لكل الناس .. لكل الدنيا .. فالذي يحب بحق لايتنازل عن حبة أبدا ..

قلت: حتي لو كان الثمن الموت؟

قالت: حتي لو كان الثمن الموت .. لأن الحياة لاتساوي شيئا بغير حب ..

قلت: الدنيا كلها تعرف قصة حبك .. وقد كتبوا عنك كتبا وألفوا الروايات .. ودبجوا قصائد الشعر!

قالت: أسمعها مني أنا .. فأنا صاحبتها وأنا التي اكتويت بنارها، وقاومت طويلا طويلا ودفعت الثمن غاليا في النهاية.

قلت: عمرك؟

قالت: ستة عشر عاما بالتمام والكمال قبل أن ألقاه، وثلاثة أعوام حب وعشق هي عمري الحقيقي في هذه الدنيا .. حتي شاءت الربة إيزيس أن أرحل!

نتمشي معا بخطوات بطيئة يجمعنا ممر ظليل بين الأشجار خارج استراحة طه حسين..

تلتفت إليّ وتقول: ألا تعرف أن اسمي إيزادورا يعني عطية إيزيس .. نحن نقدس إيزيس المصرية .. ولها معبد عندنا في بلادنا في روما..

قلت: احكي لي يا عطية إيزيس حكايتك؟

.......................

.......................

نتوقف هنا.. لنصلي إجلالا واحتراما لأجمل قصة حب في التاريخ!

قالت وهي تسرح بعيدا بعينيها الجميلتين بلون السماء والبحر: أبتدأ عمري يوم لقيته .. في الاحتفال السنوي بميلاد إله الحكمة في السوق اليونانية بمدينة هيروموبوليس.

قلت: التي أصبح اسمها بعد ذلك الأشمونين!

قالت: لا أعرف .. ولكنني جئت بقارب من مدينتي التي كنت أعيش فيها شرق النيل، وكان اسمها انتنيوبوليس.

قلت: واسمها الآن قرية الشيخ عباده.

قالت: أنت تقاطعني بأسماء لا أعرفها .. دعني أحكي لك ما جري لي ..

قلت: لن أقاطعك بعد الآن .. كلي آذان صاغية..

قالت: أنت تعرف طبعا أن والدي كان حاكم الإقليم كله وكان لنا قصر جميل في انتنيوبوليس يطل علي النيل .. وعندما ذهبت الي الضفة الغربية للنيل مع صويحباتي لأحضر احتفال الإله تحوت .. وكان أبي معنا لكنه انشغل عنا بلقاء معارفه وأصدقائه .. وكان الزحام شديدا والفرق الموسيقية تعزف والمنشدون ينشدون .. والكهان يرتلون .. والناس ترقص وتغني وترتدي الملابس الملونة.. والسوق فوق سارياتها الأعلام والزينات.. ودخلت الي بهو الأعمدة وكلها من الجرانيت الأحمر منقوش عليها صلوات الآلهة والأهازيج والدعوات .. والتقت عيوننا في لحظة خاطفة .. ضابط مصري من جنود الحرس .. كان واحدا من عامة الشعب وكنت أنا ابنة الحاكم .. ووجدت نفسي مشدودة إليه بعوده الفارع وقوامه الممشوق وبزته العسكرية وقلنصوته الحمراء والسيف معلق الي جانبه..

وناديته وسألته: من أنت؟

قال: أنا حابي ..

قلت له: وأنا ايزادورا ..

وتركنا الحابل والنابل وأبي وصويحباتي .. وذهبنا الي شاطيء بحيرة صغيرة وجلسنا علي الشاطيء نتحدث .. فتحت له قلبي وتكلمت كثيراً وهو يستمع اليّ ويتأملني .. ثم ضمني الي صدره ولكنني نزعت نفسي منه وهربت الي الزحام عند صاحباتي اللاتي سألنني: أين كنت؟

قلت لهن: لقد تهت منكن في الزحام .. ورجعنا الي بيتنا وأنا لا أفكر إلا في حابي الضابط المصري الذي بدأ يتسلل الي قلبي وكل كياني..

وتقابلنا مرة أخري ثم مرات .. وتحاببنا كما لم يحب أحد قبلنا ولا بعدنا .. كنت صغيرة في السادسة عشرة من عمري وكان هو أول حب وآخر حب .. كان يقول لي كلاما مثل العسل المصفي..

اسألها: ماذا كان يقول؟

قالت: كان يقول لي ونحن نجلس في قارب سابح في مياه النيل ما قاله سنوحي في حبيبته الأميرة الجميلة تيكاهيث:

ها أنا أراك ياحبيبتي مقبلة تتهادين كنسمة الربيع بقوامك الذي يشبه النخلة الرفيعة.. مرفوعة الرأس يداعب الريح ضفائرك!

وتزين الثمار الحمراء خدودك وجيدك تكاد قدماك لاتلمسان الأرض وأن تخطين كراقصات المعبد وتتماوج ذراعاك ويداك في دلال كأمواج البحر..

وصوتك يحمله إلي النسيم من بعيد كرنين قيثارة الحب..

ها أنا أراك ياحبيبتي مقبلة..

فيبتهج قلبي وأمد ذراعي لأضمك إلي صدري

ويهتز قلبي فرحا وهو ينتقل من صدري إلي صدرك..

ويهتز قلبك فرحا وأنت تهمسين..

حبيبتي لا تبتعدي عني وأبقي بجانبي..

لنقطع رحلة الحياة ونحن نجدف في قاربنا سويا جنبا إلي جنب..

حتي نصل معا إلي شاطئ النهاية تبارك حبنا أشعة الشمس وترعي حبنا عين الآلهة..

> > >

تدمع عينا ايزادورا.. وتمسح دموعها بالوردة الحمراء التي في يدها وتقول:

ـ كان يقول لي: أنا بنت الحاكم.. وأنا من عامة الشعب.. وأبوك لن يرضي أبدا بزواجنا.. التقاليد والعادات تمنع هذا الزواج.. إن حبنا محكوم عليه بالاعدام..

وكنت أقول له: سأقاوم أبي وأقف أمام الدنيا كلها لأتزوجك..

ولكن أبي عندما أخبرته صعق وأغلق عليَّ الأبواب ومنعني من مغادرة القصر حتي لا ألقاه.. وقال لي لا يمكن أبدا أن يختلط الدم الإغريقي بالدم المصري!

وكان حابي حبيبي يحضر في كل ليلة ويقف تحت نافذة حجرتي السهرانة ويبثني غرامه شعرا وكلاما حزينا يجعلني أبكي حتي الصباح..

أسألها: وأمك ألم تقف إلي جانبك في محنتك؟

قالت: أمي لا حول لها ولا قوة.. لقد حاولت ولكنها لم تنجح!

وأخبر الحراس والدي بحضور حبيبي كل ليلة إلي نافذة حجرتي فحذره وأمره ألا يحضر مرة أخري..

وانقطعت صلتي بمن شدني إلي الحياة وحببني إليها.. وتحايلت مع صاحباتي والجواري حتي خرجت خلسة من القصر وركبت قاربا ورحت أجدف في النيل حتي وصلت إلي الشاطئ الآخر.. وهناك كان حابي ينتظرني.. وذهبنا إلي عشنا علي شاطئ البحيرة في أنتينويوليس.. وجلسنا متعانقين ساعات ولا أحد فينا يتكلم ولا أحد فينا يقدر علي الكلام.. وكان لقاء الوداع.. لأنني قد عزمت أن أفارق هذه الدنيا الظالمة.. لم أخبره بقراري.. ويبدو أنه شعر بأنني سأرتكب جرما في حق نفسي فقال لي: أذهب معك لأوصلك إلي البر الشرقي.. قلت له لأبعده الحراس سوف ينالون منك!

فقال لي: اذهبي وارجعي إليّ أنا في انتظارك..!

ولكنني لم أعد أبدا.. رحت أجدف بقاربي الصغير حتي منتصف النهر.. وهناك دعوت إيزيس أن تغفر لي ودعوت حابي أن يغفر لي ودعوت أبي وأمي أن يغفرا لي.. ثم ألقيت بنفسي في النيل.. هو اسمه حابي وحبيبي اسمه حابي.. ارتميت في أحضانه ورحلت علي أمواجه إلي عالم أكثر رحمة وعدلا بالمحبين!

أدرت وجهي أخفي دمعة كادت تفر من عيني.. ثم التفت إليها فلم أجدها.. اختفت فجأة كما جاءت فجأة!

ناديتها: ايزادورا.. أين أنت؟

لم تجبني ولكن الذي أجابني هو صوت التليفزيونية لمياء عبدالمنعم: أنت تحلم بايزادورا.. لقد حضر الخفير ومعه مفتاح دارها.. تعال قبل أن تغيب الشمس!

> > >

صعدنا بضع درجات.. وانفتح الباب من جديد.. ودخلنا الحجرة الأولي.. كانت خالية.. إنها حجرة الزوار.. وفي الحجرة الثانية التي تهدمت وتجري عمليات ترميمها لم نجد محارة ولا قوقعة لفينوس آلهة الجمال عند الإغريق.. بل وجدنا ايزادورا راقدة داخل قفص زجاجي حديث مثل الذي نشاهده في حجرة المومياوات في المتحف المصري.. ايزادورا ممددة داخله والسقف لم يعد قبوا علي هيئة قوقعة كما كان.. بل سقف عادي مسطح من الأسمنت بعد أن سقط الأول بفعل اللصوص علي ايزادورا.

هذه هي ايزادورا إذن..

وهذه هي نهاية أعظم قصص الحب في عمر الزمن.. كل ما بقي هنا هذا الجسد الرقيق الهش علي صدرها قلادة من الزهور الجافة عمرها 2000 سنه..

تري ماذا فعل حابي حبيبها عندما علم باختيار ايزادورا للموت بديلا عن الفراق عنه؟

يقول الرواة والمؤرخون.. إنه كان يذهب كل ليلة ليوقد سراجا في دارها يضيء ليلها نورا وظلام قبرها حبا وعبادة..

ومافعله حابي.. فعله الدكتور طه حسين عميد الأدب العربي علي مدي عشرين عاما.. كان يمضي شهرا هنا خالدا للراحة متأملا سائلا الكهف المسكون والهدوء في رحاب ايزادورا.. فقد كان لافتتانه بقصتها يوقد كل ليلة شمعة في كوة داخل حجرتها.. كما كان يفعل حبيبها قبل 2025 سنة.. حتي رحل عن عالمنا.. فلم يعد أحد يوقد لها شمعة أو سراجا..

ذهبت لأوقد لها شمعة.. وأنا أهمس: عزيزتي ايزادورا.. لست وحدك!

تري من منا يريد أن يوقد شمعة في حب من أحبت وماتت حبا.. تري من منا يريد أن يوقد شمعة في حب ايزادورا هذه دعوة مني.. دعوة من القلب لكل من أحب وتعذب.. ولكل عاشق ذاب صبابة فيمن أحب.. ولكل عاشقة ضحت وناضلت من أجل من تحب.. هذه دعوة مني لكل منهم لكي يزوروا قبر ايزادورا التي أحبت وماتت من أجل من تحب.{!



> تعالوا نستقبل شهر الايمان والمحبة باعظم قصة حب من خلال هذا الكشف الاثرى الكبير في تونا الجبل الذى عثروا فيه علي 18 مومياء.. واليوم نكشف أجمل أسراره! >
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف