الوطن
سهير جودة
مصر بين مجتمعين
يقيناً، نحن لا نرى الصورة الكاملة أو الحقيقة الشاملة أو كل أبعاد أى أمر أو قضية أو مشروع. نتعامل دائماً مع صور جزئية، وبالتالى تقدير الموقف لا يكون سليماً أو كاملاً، وفى أفضل الأحوال يكون ناقصاً لو اعتمدنا فلسفة الصورة الكاملة فى كل شىء من الممكن أن يوفر علينا وقتاً كبيراً فى البناء، ويجعلنا نتلافى أخطاء كبيرة وعنيفة وبالتالى سيكون ذلك مردوداً اقتصادياً مميزاً يعطى الاطمئنان ويضخ الثقة، ورغم أننا نستهلك يومياً كميات أخبار ومعلومات وكلام وأفعال، لكننا لا نرى أن مصر تعيش الآن بين مجتمعين: مجتمع كلاسيكى يشك فى كل شىء وفاقد الثقة فى نفسه، وفى كل شىء أيضاً وهو مجتمع مأزوم لديه أزمات كبيرة فى كل شىء تقريباً وتشوهات فى كل شىء تقريباً أيضاً، ويعانى من الفقر والجهل والمرض وتشوه الشخصية وأمراض السلوك والاحتقان السياسى ويلتحق بمظاهر تدين خارجية، ومنهجه الشك فى كل شىء. أما المجتمع الآخر، فهو مجتمع كامل من الشباب تجاوز كل الأزمات التى غرقنا فيها، بداية من الغرق فى مياه السياسة الجارية أو الآسنة مروراً بما نستهلكه يومياً من كلام عن الإحباط والأزمات الاقتصادية والتشوهات المجتمعية ووصولاً لما نعتبره القدرة على التغيير، وهى التى نراها الأصعب وأحياناً مستحيلة، فى ظل مجتمع خامل بينه وبين العمل والعلم عداوة، وجهاز إدارى متهالك ينفذ إليه الفساد من كل اتجاه، هذا المجتمع يضم آلاف المبدعين والمبتكرين فى مئات الأفكار الصناعية والتكنولوجية والتجارية وغيرها. هؤلاء لم ينتظروا معونة من الدولة أو جهداً، وأغلبهم خلق أفكاراً مبدعة، وقاموا بتكوين شركات والمنافسة ليست فى السوق المصرية فقط دائماً بل فى الأسواق الإقليمية وأحياناً العالمية، وحققوا نجاحات مادية متميزة، وبعضهم حقق ثروات، وهذا المجتمع يؤمن بفكرة الصناعات الصغيرة والمتوسطة واجتهدوا فيها بطريقة أو بأخرى وتجاوزوا عقدة العقد المصرية التى تواجه الشباب، وهى البطالة، وأصبحنا نراهم فى كل شارع أو نسمع عنهم من خلال تجارات أو صناعات بسيطة أو متوسطة، ولكنها أنيقة ومختلفة وليست عشوائية وتحقق دخلاً مادياً جيداً وتفتح أمامهم أفقاً للتوسع، وفى هذا المجتمع شباب بدأوا أفكاراً من بيوتهم، وقاموا بتصنيع منتجات غذائية وغيرها وأصبح لديهم محلات.

كما يضم هذا المجتمع أيضاً شباب الإنترنت الإيجابى الذى قام باستغلال الجانب الجيد وكوّن شبكات تواصل مفيدة للتشغيل وتبادل المعرفة وتقديم الخدمات، وفى هذا المجتمع أيضاً آلاف من المبدعين فى الفنون بكافة أشكالها: المسرح والموسيقى والسينما والكتابة ووصلوا إلى جماهيرية كبيرة وبدأوا فى تغيير أشكال الحركة الفنية وفى اقتصاديات هذه الحركة، ويضم هذا المجتمع أيضاً شركات مصرية كبرى بعضها نعرفه وبعضها لا نعرف عنه شيئاً، رغم أنها شركات قوية وتلعب دوراً مهماً فى المسئولية الاجتماعية، وتغيير واقع بشر ومناطق تحتاج للدعم بعيداً عن أساليب جمع التبرعات، وتقديم معونات مادية ولكن هذه الشركات تخصص من ميزانيتها وتقوم بعمل مشروعات تنموية مدروسة وتنفذها بكل الدقة والإتقان والعلم، وإذا مد الخط على استقامته سنجد تجارب ناجحة من تواصل العمل والنجاح يمكن إدراجها تحت هذا المجتمع، الذى لا ندرك تحت وطأة الغرق فى المشاكل أنه يتشكل بقوة، وهذا المجتمع شاب جداً وينتمى للطبقة المتوسطة بكل أطيافها ويكبر ويقوى يوماً بعد يوم، وعدد المنتمين إليه أو المستفيدين منه، ومن ينضمون إليه فى ازدياد، ولو أدركنا جودته وأهميته سيكون هو القادر على ما نعتبره التغيير المستحيل، أو الصعب.

هذا المجتمع لا بد أن نراه بوضوح وأن ندرك وجوده حتى تتسع دائرة الانضمام إليه، وإذا كان للإعلام دور مهم فى إدراك هذا المجتمع فالدولة لا بد أن تكون لديها خريطة واضحة لهذا المجتمع كاملاً لتراه بوضوح وتدعمه وتفتح له المسار، فهو لا يحتاج دعماً مالياً أو فنياً وإنما يحتاج لاهتمام وإدراك وأن يكون جزءاً من خطة ورؤية للدولة، فهذا المجتمع يختلف كلياً وجذرياً عن المجتمع الكلاسيكى، والفرق بينهما أن هذا مجتمع أدرك حقيقة تمسكه بطموحه وحطم كل القواعد وتجاوز الأزمات رغم أنه يعيش معنا فى نفس البلد وفى نفس أجواء المناخ لا بد أن تضع الدولة هذين المجتمعين أمام كليهما الآخر، والمجتمع الناجح يجب أن يكون أحد موارد الدولة، وأحد أسلحتها فى التغيير وعليها أن تساعد فى انضمام بشر جدد إليه، وتوسيع دائرته حتى تستطيع إنجاز مهمتها الثقيلة، والمهمة فى دعم المعوزين أصحاب الاستحقاق الأول فى الرعاية، سواء كان علاجاً أو عملاً، وحتى تستطيع الدولة أن تسد احتياجات من لا يستطيع وحتى تنجح فى مهماتها الرئيسية لا بد من دعم المجتمع الناجح، ليشعر به الجميع، وحتى تدعم المعوزين لا بد أن تدرك أن أحد أهم أسلحتها دعم هذا المجتمع الناجح ومحاربة الفساد وإفشاء العدل. هذه المهمة لا بد أن تكون أولى أولويات الدولة.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف