الأهرام
سناء صليحة
«تحيا الأمية» 4
فى رائعة عبد الرحمن فهمى «دماء على الصحراء» يتصدى الأجير الفقير سعداوى بوحى من وعى فطرى لمنظومة قيم فاسدة يكرسها شيخ القرية موسى الذى اكتسب مكانته ولقبه بفضل زى وشذرات من علم لم يستوعبه فعاد لقريته ليتحول لترس فى آلة البطش الجهنمية بالبسطاء سواء على مستوى العلاقات البسيطة بين الافراد او علاقتهم «بعويل القرية» وبأسيادها من الأثرياء وقطاع الطرق وصولا لتمرير نظام السخرة الذى فرضه الخديوى سعيد فى زمن حفر القناة ..تختلف الأماكن والحبكة الروائية أو القصصية وأسماء الأبطال وتتعدد الصور ويظل المضمون واحدا....تكريس الجهل والظلم تحت مظلة متهرئة من قشور علم ومحو أمية هجائية.. ففى زمن كان الخروج فيه من القرية والارتحال للقاهرة أو البندر لتلقى العلم أو العمل ثم العودة للقرية موسميا بمثابة حجر تتلقفه المياه الراكدة ..يتحول السكون لصخب وتصبغ الأحداث الدرامية أياما و ليالى باهتة، وكأن العائد يرجع محملا بنفحة حياة و برياح التغيير رغم اعتراض ومحاربة من «يفكون الخط» والذين لم يحصلوا من العلم إلا على قشور، كثيرا ما أعمت القلوب وغيبت البصائر..هذا ما وشت به مُجمل أعمال كتابنا منذ ظهور رواية زينب لحسين هيكل مرورا بأيام وشجرة بؤس وأديب طه حسين وبوسطجى يحيى حقى، وتجلى سواء فى صدام «أديب» طه حسين مع صاحب المتجر الذى يلتف حوله الفلاحون فى حلقة سمر أبطالها العفاريت والعياذ بالله أو مع شيخ قرية أحمد رشدى صالح فى فيلم الزوجة الثانية الذى يحاول إقناع الفلاح أبو العلا بتطليق زوجة بتكرار « أطيعوا الله و أطيعوا الرسول وأولى الأمر منكم» وإغفال معنى وباقى الآية الكريمة (59 سورة النساء ).. وهنا يطرح السؤال نفسه كيف استوعب نموذج سعداوى الأجير الأمى، والذى تكرر بشكل أو بآخر فى أكثر من عمل روائي، ما لم يدركه الشيخ موسى وأقرانه ممن حظوا بقدر من العلم أو تحلوا بشهادات علمية ؟ قدم الادب الاجابة ولخصها فى وعى فطرى لم يتم تزييفه وجينات حضارية موروثة مقابل قشور من علم، وهو الامر الذى اكدته الدراسات الحديثة عندما وضعت خريطة توضيحية لأشكال الجهل واعتبرت الامية الهجائية ابسط اشكالها، إذ عرضت للأُميّة الوظيفيّة والمهنية ( بمعنى عدم القدرة على فهم أساسيّات طبيعة العمل والوظيفة والمهن المناسبة لقدرات كل شخص) والأُميّة المعلوماتيّة المتمثلة فى عدم الحصول على المعلومات المختلفة التى يحتاجها الانسان فى مجالات حياته والأمية الثقافيّة التى تتجلى فى غياب الموروث الثقافى وتسطيح الوعى وعدم الالمام بمكونات الهوية والحضارات المختلفة والعجز عن التفاعل معه.. ثم أضافت الأُميّة العلمية (عدم القدرة على الحصول على مستوى تعليميّ أوالشهادات العلمية) والأُميّة البيئيّة بمعنى الجهل بكلّ ما يتعلق بالبيئة والعجز عن التفاعل معها والحافظ عليها، لتأتى الامية الحضارية فى قمة الهرم عندما يفشل المتعلمون فى مواكبة معطيات العصر بأشكالها المختلفة وتوظيفها إبداعيا بما يحقق الانسجام والتلاؤم بين ذواتهم والعصر الذى ينتمون إليه.. وأظننى لا أبالغ إذا ما قلت إن التوقف للحظات أمام بعض مما نواجهه فى حياتنا اليومية على كافة المستويات ورده الى التعريفات المشار اليها فيما سبق لا يؤكد فقط أننا نعانى امية متعددة الاشكال ربما اقلها خطورة الامية الهجائية، ذلك أن بعض ضحاياها يتمتعون بوعى حضارى وبصيرة تؤكدها شواهد عرضنا لها من قبل، بل إن الخطورة الحقيقية تتمثل فى عدم الوعى بأشكال الامية المختلفة وتجاهل نتائجها الكارثية وأنها السبب الحقيقى وراء العديد من الظواهر والمظاهر التى تؤرقنا ولا نملك ازاءها إلا ضرب كف بكف انتظارا لما تأتى به الايام من كوارث، لا نعترف أننا جزء أصيل فى صنعها!!وفى تقديرى أن درء هذا الخطر لن يتأتى إلا بتنشئة مجتمعية عناصرها مناهج تعليمية وإعلام واع ومؤسسات ثقافية تضطلع بدورها لمحو الجهل بكل أشكاله وإلا ستظل الأمية واقعا وهتافا نردده وإن استنكرناه ..

تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف