الأهرام
د/ شوقى علام
الخلل فى المفاهيم(3) مفهوم الولاء والبراء
يشيع مصطلح الولاء والبراء في أدبيات الفكر المتطرف وترتكز عليه الحركات المتشددة في ترسيخ الفرقة والتصنيف على الهوية وبث الطائفية وإشعال الكراهية والفتنة وإثارة الحقد بين أفراد الأمة، وبينهم وبين غيرهم سواء كانوا إخوة لهم في الوطن أو في الإنسانية.

والبراء بفتح الباء مصدر مأخوذ من »بَرِئ« الذي تدل معانيه على السلامة من الشيء والبعد عنه، ويظهر منه أنه يستعمل ضد الولاء، فالولاء مأخوذ من »ولي«، الذي تدور معانيه حول القُرْب والحب والنصرة، وقد تواردت النصوص الشرعيَّة على إظهار أن البراءة تكون من الأعمال لا من الأشخاص غالبًا، وفي ذلك يقول الله تعالى: (وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ)[يونس: 41]، ويقول سبحانه: (فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ)[الشعراء: 216].

ورغم وضوح ذلك نظرًا وواقعًا نجد أن هذا المفهوم اختزله أهل التطرف من خلال تخصيص أتباعهم والمتعاطفين معهم بالمعاني المترتبة على الإيمان به من الحب والنصرة والموالاة دون غيرهم من أبناء الأمة فضلا عن غيرهم، مع إهمال دلالات النصوص الشرعيَّة الأخرى التي تحث المسلمين حثا كبيرًا على التعامل بالقسط ونشر الحب والسِلم والتعاون وفق البر والتقوى مع الناس كافة دون تمييز بين أحد منهم أيًّا كان. لقد حملهم اختزالهم لهذا المفهوم للغلو والتطرف، حيث جعلهم يعتقدون أنهم هم الناجون، ومن ثم يصنفون أي مخالف فضلا عن أي منتقد لهم أنه عدو للإسلام ذاته وليس لهم، مع توسعهم في البراءة من المسلمين، وتقريرهم جملة من القواعد التي لم تعرف عند المسلمين سلفا ولا خلفا كقولهم: »لا يتحقق البراء إلا بإظهار العداوة«، و«البراء لا يتحقق إلا بترك المـداراة«، و«البراء لا يتحقق إلا بالإساءة إلى الكفار والعصاة وظلمهم، و«البراء الاعتقادي لا ينفك عن البراء العملي«.

ولا ريب أنها قواعد وأفكار لم يعرفها المسلمون عبر تاريخهم، بل أنكرها سلف الأمة وعلى رأسهم الإمام أحمد رضي الله عنه، ومع ذلك نجد تبجحهم في تبرير هذه الأهداف الخبيثة والأفكار المبتدعة من خلال تحريف الأدلة عن مواضعها لإعطاء المشروعية لها ولأعمالهم الإجرامية والتحريضية ضد شركاء الوطن والإنسانية، وسبيلهم في ذلك اقتطاع الأدلة والنصوص من سياقاتها وظروفها، خاصة تلك الأدلة التي تنهى المسلم عن اتخاذ غير المسلم وليًّا دون المسلم، كقوله تعالى: (لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ)[آل عمران: 28]، وقوله عز وجل: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا مُبِينًا)[النساء: 144].

وهي آيات حق وبينات صدق تؤيد نظيرها الآخر الذي يدعو إلى الحب والسلام والأخوة الإنسانية واحترام الآخر والتعايش معه، وهي تقرر بعد الجمع بينها أن ولاية المسلم لغير المسلم التي تنافي ولايته للمسلم والمنهي عنها تتحقق عندما يكون في تولي غير المسلم إضرار بالمسلم أو ابتعاد عن عقيدة المسلمين، كما هو الحال حتى مع المسلمين أنفسهم، وهي تشتمل على ثمانية أحوال لكل حال منها أحكام مفصلة في بابها وهي متفاوتة بين الجواز والإباحة حسب المصالح أو المفاسد أو كونها معصية، وأغلبها لا يلزم منه خروج المسلم عن ملته وأحكام شريعته كما يروج هؤلاء المرجفون. إن النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته والمسلمين من بعد حتى يوم الناس هذا يحيون حياة اجتماعية قوية مع ذويهم وأهليهم وجيرانهم وإخوتهم في الإنسانية، فلا تزال تربط بينهم وبين غيرهم الصلات وروابط الأخوة والأنساب والجوار والمودة والأمور المالية والتعاملات التجارية والمعاهدات، والتي تعزز أوجه التعاون المختلفة، بما يخدم الاستقرار وينشر السلام ويعين على التنمية والعمران. ومما سبق يظهر عمق الوهم ومدى الخلل لدى هؤلاء في فهم هذا المفهوم وفداحة الخطأ في تنزيله في مواضعه المرادة شرعًا، ومخالفة ذلك لمقاصد دعوة الإسلام وموجبات الرسالة المحمدية السمحة.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف