الأهرام
د. نصر محمد عارف
الحاجة لثورة ثقافية
فى كتابه «مصر الحديثة» الذى لخص فية تجربة مصر تاريخاً وحاضراً ومستقبلاً، والذى صدر بالإنجليزية عام 1916 في 1248 صفحة، فى مجلدين، أورد اللورد كرومر تحليله لنفسية الإنسان المصرى من خلال أغنية كانت منتشرة فى زمانه، ولم تزل؛ لأنها من الفولكلور الشعبية واللورد كرومر من أكثر الشخصيات الاستعمارية شهرة، فقد تحكم فى مصر فى أخطر فترة من تاريخها تحت الاحتلال البريطاني، وأعاد تشكيل نظمها التعليمية والإدارية بصورة لم يفعلها غيره. فى هذا الكتاب الذى صدر قبل وفاته بعام واحد، وضع اللورد كرومر خلاصة تجربة امتدت نحو ربع قرن كان فيها الحاكم الفعلى لمصر، وأشرف على إعادة تشكيل كل شئ فيها، خصوصاً عقل الإنسان المصري، الذى أولاه اهتماما خاصاً من التدخل فى وضع مناهج التربية والتعليم بما فيها التربية الدينية، إلى إنشاء كليات تنافس الأزهر وتحل محله؛ مثل كلية الحقوق التى أنشئت 1886، وكلية دار العلوم 1872.

كان اللورد كرومر يستمع إلى مطرب مصرى يردد لساعة جملة واحدة، بكل المقامات الموسيقية، ويتطرب فى تكرارها بصورة أصابته بالملل، وكلما سأل عن الترجمة يقال له نفس الجملة: «كل حبيب بجنبه حبيبه ... وانا حبيبى راح ... يا مين يجيب لى حبيبى ع الفراش يرتاح»، تعجب ذلك المستعمر المشغول بتخدير رعايا الإمبراطورية، وضمان طاعتهم ورضاهم بحكمها، وعدم ثورتهم عليها، وأعجبه ذلك المعنى الذى تتضمنه هذه الأغنية الطربية التى تعكس النفسية المصرية لانسجام المصريين معها، وتكرارهم لها، وانتشارها بينهم.

إنسان مصرى يحتاج من يأتى له بحبيبه يرتاح بجواره على الفراش، هل من الممكن أن يثور على مستعمر، ويناضل من أجل أن يسترد حريته، وإستقلال بلده؟ هذه هى الخلاصة التى خرج بها اللورد كرومر من تلك السهرة الفنية، ذهب إلى بيته مرتاحا، سعيداً بذلك الشعب الذى يبحث عمن يأتى له بحبيبه، خصوصاً أن الحب حاجة إنسانية فردية، هى أعظم الحاجات العاطفية، وأرقى الوجدانيات الانفعالية، فهى تدفع الإنسان للثورة من أجل الحبيب، وأحيانا الموت.

بعد مرور قرن من الزمان على وفاة اللورد كرومر، وعلى صدور كتابه «Modern Egypt»، هل تغير شئ؟ سيقول لك تجار الثورة والمنتفعون بها، والمسجونون فيها نعم.. لقد قمنا بثورتان فى 25 يناير، وفى 30 يونيه، والحقيقة أنهما ثورتين سقط فيهما غطاء القدر من شدة غليان ما فيه، وما أن سقط الغطاء عن «الحلة» حتى طار البخار فى الهواء وهدأ الغليان، وأصبح ما فى «الحلة ساخناً» ولكنه لا يحرك شيئاً، ولا يؤثر إلا فى نفسه، ورجع المصرى إلى عادته القديمة يدندن ليل نهار «يا مين يجيب حبيبية!!»، أو يا مين يجيب لى العيش واللحمة والفراخ، والمواصلات، والتعليمة..الخ!!، يامين يشغلنى ويزوجنى ويجيب لى شاليه فى العين السخنة، أو الساحل الشمالى وفيلا فى الشيخ زايد أو التجمع الخامس!!، يا مين يجيب لى الديمقراطية والحرية، والشفافية!!، يا مين يرحمنى من الفساد، ومن ظلم الموظفين!!. هذه الحالة من السلبية والانتظار للمجهول الذى سيأتى بالمعلوم، سيأتى بكل ما نحلم به ونتمناه، هذه الحالة التى يعرف فيها الإنسان المصرى كل ما يريد، وما يتمني، ولكنه لا يعرف كيف يحقق ما يريد، هذه الحالة أصبحت جزءاً أصيلاً فى الشخصية المصرية بكل أطيافها، وبكل مستوياتها، وبكل خلفياتها، من أولئك الذين يريدون العودة إلى الحكم من خلال التسول على أعتاب الدول التى تستخدمهم ولا تخدمهم، إلى الذين يحلمون أن تعود مصر لمجدها وسالف عصرها، وتسترد مكانتها، كلاهما يجتمعون مع اللورد كرومر كل ليلة يطربون لأغنية «يا مين يجيب حبيبية!!»، ثم ينامون متخاصمين متقاتلين.

وللأسف تطور الأداء المصرى فى هذا المجال تطوراً ملحوظا، مع انتشار عقلية الربح السريع بالحرام قبل الحلال، وبالسرقة والغش والرشوة قبل العمل، وبالإستغلال والإحتكار والإتجارفى أقوات الناس قبل الإنتاج هذه العقلية التى حولت المصريين إلى نبَّاشين للقبور يحفرون ليل نهار فى كل بقاع مصر بحثاً عن مطموات الفراعين، أو كنوز المساخيط، أو أثار الأجداد العظام لسرقتها وبيعها لتحقيق ضربة حظ تأتى بالثراء الخيالى بدون عناء.

مع هذه النفسية العظيمة فى تعاستها، وبؤسها جاء من يلهب حماس الشعب العظيم فى انتظار من يأتى له بحبيبه، ليدفعهم إلى طبقة أعلى فى سماء الخمول والكسل والحلم فأصبحوا جميعاً يغنون ليل نهار آه لو لعبت يازهر.!!، انتقل الشعب المصرى بعد قرن من الزمان من حالة إنسانية خاملة تنادى على من يأتى بالحبيب؛ إلى حالة إجرامية من لعب القمار، أو لعب الزهر، والتمنى أن يأتى الحظ فى صالة القمار الكبرى التى هى الوطن، وهنا قد تتغير الأحوال، وبعدها ننتقم من بعضنا البعض، ونتعالى على بعض، ونسخر من بعض، وتسود حالة من المرض الاجتماعى الشامل الذى ستأتى به لعبة الزهر، بعد أن كنا فى حالة رومانسية واسترخاء ستأتى مع من يأتى بالحبيب.

مصر بدون مجاملة ولا مداهنة ولا عقد وطنية تحتاج إلى ثورة ثقافية مثل التى قام بها الإمبراطور اليابانى الميجى فى ستينيات القرن التاسع عشر، أو الجنرال بارك فى كوريا الجنوبية فى ستينيات القرن العشرين، ومن أراد أن يعرف كيف فليراجع تجربة اليابان وتجربة كوريا الجنوبية لعلنا نعود مرة أخرى لنغنى.. «يا صحرا لمهندس جاى».
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف