بوابة الشروق
داليا شمس
سور النت العظيم
«إذا أردت أن تصبح ثريا فلتشيد طريقا. وإذا أردت أن تزداد ثراء فلتصنع قطارا سريعا. وإذا أردت أن تكون ثريا للغاية بسرعة كبيرة فلتعمل فى مجال الإنترنت»، تلك مقولة شائعة فى الصين الذى عرف الإنترنت منذ النصف الثانى من تسعينيات القرن الماضى، وبالأخص منذ أن أرسل أستاذ جامعى رسالة من بكين للعالم بأسره مفادها: «عبر السور العظيم، يمكننا أن نصل إلى كل ركن فى الأرض». والآن وقد وصل عدد مستخدمى الإنترنت هناك إلى 731 مليون شخص، وصار عدد من يمتلكون تليفونا محمولا هو نفس عدد السكان، وبعد أن وصلت معدلات النمو الاقتصادى لدرجة غيرت من تركيبة المجتمع نحو مزيد من الفردية والقيم الاستهلاكية، نجد بالفعل قطارات الصين السريعة منتشرة حول العالم وكذا عمليات حفر الطرق والبنية التحتية التى تنفذها. وهو ما نلحظه بوضوح من خلال المشروعات المقدمة على خريطة طريق الحرير الجديد ومبادرة «الحزام والطريق» التى تقام اليوم وغدا فى بكين. لكن فيما يتعلق بالإنترنت، هناك ما يعكس طريقة تعامل الصين مع صعوده الاقتصادى وكيفية التأقلم مع الوضعية الجديدة من خلال حزمة من التدابير والتوافيق وعمليات دمج كل ما هو عالمى فى سياق محلى، فعلى الرغم من كون مجال الإنترنت يندرج ضمن قائمة مآخذ الحريات التى يعايرها بها البعض، إلا أنه نموذج ناجح لخلق بدائل محلية وتطويع التكنولوجيا لخدمة الاقتصاد، حتى لو كان ذلك يوظف لوضع أفراد المجتمع تحت الملاحظة والسيطرة، فهذه نقرة وتلك نقرة.
***
فى مترو العاصمة، معظم الركاب لا ينظرون لبعضهم البعض. يكاد الباب يغلق على قدم أحدهم وهو مشغول بالألعاب والأخبار التى يتابعها على هاتفه المحمول. جيل سياسة الطفل الواحد كبر وترعرع فى زمن الإنترنت. هو قطعا جيل أوفر حظا من سابقيه، فالأوضاع تسمح برغد العيش، خلافا لجيل الآباء الذى لم يكن دخله يسمح بشراء جهاز تليفزيون سوى بعد طول عناء أو ربما لم ير تلفازا سوى عند متابعته لمراسم دفن الزعيم ماوتسى تونج فى نهاية السبعينيات.
من صار اليوم على المعاش، هو من لايزال يتابع برامج التليفزيون، وفقا لكلام المتخصصين. وفى السياق نفسه يتراجع توزيع الصحف الورقية بوتيرة متسارعة أكثر من أماكن أخرى حول العالم. لكن أغلبية السكان لا يمكن أن تحيا بدون تطبيقات صينية مثل الويتشات (البديل المحلى للواتس أب منذ عام 2011، الذى تأخر ظهوره شهرا عن هذا الأخير، وإلا لكان قد غزا العالم).
هذا الشاب يشترى قطعة حلو ويدفع ثمنها بواسطة التطبيق الشهير، ثم يذهب لاستئجار دراجة ضمن الدراجات المصفوفة فى الشارع ويدفع أيضا بواسطة الويشتات، كما يمكنه متابعة آخر المقالات والمدونات على التطبيق نفسه، أو مهاتفة الأصدقاء بالمجان، أو استلام «العيدية» التى يبعثها ذووه من الإقليم المجاور من خلال أحد استخدامات التطبيق.
وهذا الشاب أيضا يمكنه شراء ما يلزمه من كتب عبر النسخة الصينية لموقع أمازون (amazon.cn) واستدعاء «دى دى» تاكسى عند اللزوم، وهى شبكة محلية بشراكة مع أوبر، أو يتواصل مع الآخرين من خلال موقع «ويبو» للتدوين القصير أو اللجوء لموتور البحث «بايدو» المعادل الموضوعى لموقع جوجل الممنوع فى الصين، أو شراء ما يحتاج من ملابس وخلافه عبر موقع الشراء الأول محليا «على بابا»، فمنذ نحو سنة 2004 وعدد المواقع والتطبيقات المحلية فى تزايد مستمر. وبعد مرور 2008: عام الأزمة المالية العالمية وعام استضافة بكين لدورة الألعاب الأولمبية، ازدادت الصين ثقة بقدراتها، شعرت أكثر من أى وقت مضى أنها على الطريق الصحيح، ما ترتب عليه أيضا رغبة عارمة فى اللحاق بالركب أو تعويض ما مضى.
***
ثقة أكبر فى البدائل المحلية التى يمكن تصديرها كسائر المنتجات للعالم، تتماشى مع الميل لمجابهة «الإمبريالية» التى تسيطر على فضاء الإنترنت عالميا، وحرص على أن يكون لها السيادة الكاملة عليه. وبالتالى مع تزايد عدد المواقع والتطبيقات المحلية، قننت شرط الدخول على المواقع بالأسماء الحقيقة عام 2012، فلا مجال للأسماء المزيفة أو الوهمية، وصرفت ما يعادل 800 مليون دولار أمريكى لبناء سور الإنترنت العظيم أى لإحكام سيطرتها الأمنية على الشبكة العنكبوتية. وفى الوقت ذاته، شجعت مواطنيها على استخدام مواقع التجارة الإلكترونية وتطويرها، فتقليديا الشعب الصينى كان دوما بارعا فى تنمية شبكات التجارة ولديه جينات البائع الشاطر، هادئ الطباع. وهو الآن، وبعد أن دخلت الرقمنة جميع نواحى الحياة، يقف بالطوابير ليحصل على آخر جهاز هاتف ذكى فور طرحه فى الأسواق، لكن لا يكتفى بكونه مستهلكا للتكنولوجيا بل منتجا لها، يسعى لتطوير اقتصاد الإنترنت، فقد دخلت الصين من واسع عصر الإنترنت الصناعى، حيث تندمج الآلة مع العقول أو التطبيقات الذكية، رغم التضييق على الحريات. عالم آخر تفصلنا عنه أميال وسور عالٍ، طويل وبعيد، وثقافة مختلفة نشأت فى ظل نظام الحزب الواحد، ما يجعل إعادة إنتاجها لا تتماشى مع كل المجتمعات.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف