الأهرام
د. نصر محمد عارف
نموذج جديد للشراكة بين مصر ودول الخليج
لم يبق فى العالم العربى كتل استراتيجية متماسكة إلا مصر ودول الخليج العربي؛ بعد أن خرجت، أو أخرجت العراق وسوريا واليمن وليبيا، وفشل الاتحاد المغاربى فى تحقيق الحد الأدنى من المصالح الاستراتيجية، نظراً لحالة المناكفة المستمرة على مشكلة الصحراء الغربية.

حدث ويحدث ذلك فى لحظة تاريخية فارقة تشهد تحولات جذرية على المستويين الإقليمى والدولي، حيث تنطلق جميع دول الجوار الجغرافى فى تنفيذ مشروعات استراتيجية تنال من الأمن القومى العربى كليا أو جزئيا، فتركيا تتحرك بصورة عنيفة وانفعالية ومتسارعة لتحقيق حلم العثمانية الجديدة، وإيران انطلقت بوحشية غير مسبوقة فى العراق وسوريا واليمن والبحرين، وبدهاء وتدبير سياسى فى باقى الدول العربية؛ لتحقيق أهداف مزدوجة ظاهرها نصرة مذهب آل البيت رضوان الله عليهم أجمعين، وحقيقتها إحياء الامبراطورية الفارسية، وإثيوبيا تنتقم للتاريخ والجغرافيا من فراعنة مصر، وتأخذ ثأر الأميرة عايدة الأسيرة عند فرعون، وفوق كل ذلك تمكنت إسرائيل من ضمان أمنها وتحقيق أهدافها بعد خروج العراق وسوريا من ميزان القوة العربية، وأصبح العرب لا يملكون حيالها إلا الاستجداء.

كل ذلك حدث ومازال يحدث، والنظام الدولى يشهد تحولات جذرية ليس للعرب فيها دور، ولم يعودوا طرفاً فاعلاً، بل هم موضوع لتلك التحولات، وللأسف لم يستطيعوا فهمها بصورة مبكرة، أو بصورة شمولية ليتمكنوا من ترتيب أوراقهم، والتحرك بصورة تحافظ على الحد الأدنى من حقوقهم، وأصبحت القضايا العربية الكبرى تُناقش فى عواصم غير عربية، وبين أطراف غير عربية: إقليمية ودولية، والعرب يرفضون أو يحتجون، أو يحركون جماعات صغيرة الوزن والدور لمواجهة تلك القوى على شاشات الفضائيات.

فى ظل هذا المشهد جاءت تحركات الرئيس عبدالفتاح السيسى وجولته فى دول الخليج التى قادته إلى كل من السعودية والكويت والبحرين، وكانت زيارته لدولة الإمارات الأسبوع الماضى غاية فى الأهمية، فقد مثل اللقاء الذى جمعه والشيخ محمد بن زايد آل نهيان مع المشير خليفة حفتر والسراج نقطة تحول تؤشر إلى نمط جديد من التعاطى مع القضايا العربية المحورية، ودلالة هذا الموقف أن مصر دولة الجوار الكبرى لليبيا، والتى كانت اللاعب التاريخى فى المشهد السياسى الليبى بإرادة الليبيين أنفسهم واختيارهم، تدعم الدور الإماراتى فى احتواء الأزمة الليبية، والحيلولة دون تدويلها بما يقود إلى تقسيمها، ومن هذا المشهد الذى يمثل نقطة تحول كبرى فى طبيعية العلاقات بين مصر ودول الخليج العربى يمكن تصور نموذج جديد للتعاون الاستراتيجى يحفظ ما بقى من العالم العربي، ويستنقذ ما أوشك أن يضيع فى المستقبل القريب أو البعيد:

أولا: إطلاق حوار استراتيجى بين مصر ودول الخليج العربى لصياغة رؤية مستقبلية تحفظ الأمن القومى العربى عامة والخليجى خاصة، وذلك من خلال الاتفاق على المصالح الاستراتيجية الكبري، وأولها تحديد العدو من الصديق، وترتيب الأولويات، والاتفاق على المصالح الاستراتيجية لكل دولة على حدة، وللتكتل الاستراتيجى المصرى الخليجى والأمة العربية، وتأسيس علاقات استراتيجية تبتعد عن المناكفات الشخصية، والتحولات الانفعالية للمكايدة الوقتية.

ثانيا: الاتفاق على استراتيجية واضحة لمواجهة إيران، والاتفاق على تعريف دقيق لموقع إيران من الأمن القومى العربى عامة، والخليجى خاصة، وهنا ينبغى أن يتم الابتعاد عن خطاب المناكفات السياسية، والكيد الدبلوماسي، فإيران خصم تاريخى ومنافس استراتيجي، ولكنها ليست عدواً، ولا ينبغى أن تكون، لأن أنماط التفاعل الاجتماعى والاقتصادى والثقافى مع دول الخليج تحول دون تصنيف إيران كعدو، ولكنها فى الحقيقة ليست صديقاً، ولن تكون، لان الجاذبية الجغرافية تجعل من إيران طامعةً فى ثروات الخليج العربي، ورافضة لقيام منافس عربي، لذلك كان تدمير العراق هدفاً استراتيجيا لها ولعملائها حتى تكون هى الطرف الأقوى فى الخليج، والمتحكم فيه استراتيجيا، وهذا نمط سياسى قديم منذ قبل الإسلام، وقبل التشيع؛ فحين قُتل حجر بن عدى ملك الحيرة ووالد الشاعر الجاهلى امرؤ القيس؛ كتب المؤرخون أنه كان هناك جاسوسان فارسيان يجولان فى الحيرة يوم قتله، هذان الجاسوسان مازالا يجولان فى معظم الدول العربية.

ثالثاً: إعادة تقييم الوضع العربى والبحث عن الما ورائيات الكامنة خلف الأحداث الكبرى الجارية، وتقديم تصور جديد لمواجهة التحديات الكبرى التى تواجه أمن الخليج وأمن مصر، ومصالح دول الخليج ومصالح مصر، ومنها على سبيل المثال أن الحرب فى اليمن هى لاستنزاف السعودية، وإعاقة عمليات التحديث والتطوير التى بدأها الملك عبدالله بن عبدالعزيز رحمة الله عليه، لذلك ليس من مصالح الحوثيين عملاء إيران إنهاء الحرب لا بالنصر ولا بالهزيمة، هم يريدونها حرب استنزاف لدول الخليج، وكذلك الحال فى سوريا، تريدها تركيا وإيران حربا تصنع جيلا جاهلا عنيفا كفيلا بإرباك المجتمعات العربية وإضعافها، مثلما فعلت حرب أفغانستان مع باكستان.

رابعاً: أن العلاقة الاستراتيجية بين مصر ودول الخليج يجب أن تقوم على أسس جديدة، فدول الخليج ليست مخزن أموال، ومصر ليست الدولة العربية الأكبر الذى يعلم أخوانه ويطببهم ويطورهم، فقد تغير الواقع بصورة جذرية، فمصر يجب أن تعى الواقع المتغير فى دول الخليج وتعيد صياغة العلاقة لتكون شراكة كاملة على جميع المستويات، فدولة الإمارات تستطيع أن تقدم لمصر نموذجا تنمويا شاملاً تحتاجه مصر أكثر من أى وقت مضي، والسعودية فيها من الجامعات ما يسبق جامعات مصر بمئات الدرجات فى تصنيفات الجامعات العالمية، ومصر فى المقابل تملك إمكانيات بشرية وطبيعية هائلة، وفوق ذلك لديها قدرات دفاعية تستطيع أن تحقق التوازن الإقليمي، ومن ثم لابد من تحقيق نموذج من الشراكات على جميع المستويات؛ من خلال نموذج جديد للاعتماد المتبادل حسب المزايا النسبية لكل طرف من الأطراف.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف