المصريون
أسامة شحادة
" إنني أنا الله لا إله إلا أنا "
الإيمان بالله عز وجل وتوحيده هو أساس الوجود، فما كان لهذا الوجود أن يوجد لولا أن الله عز وجل أوجده، وهذا هو منطق العلم الذي يقرر أن لكل شيء (حدث) سببا ومسببا، فلا يوجد منزل مثلاً لم يقم عمال ببنائه وجلب مكوّناته، ولكن منطق العلم يقرّ أيضا أن تسلسل الحوادث لا يمكن أن يستمر بدون أن نصل لنقطة حدث فيها شيء بدون سبب مادي، وإلا سنبقى ندور في فراغ، وهو ما يسميه العلماء (الدور)، لأن الحوادث لها ثلاثة احتمالات:
إما أن تكون واجبة الوجوب بنفسها وهذه لا يجوز أن يسبقها العدم، ولكن كثيرا من الموجودات سبقها العدم!
وإما أن تكون ممكنة الوجود وهذه أيضا يسبقها العدم ولا يمكن وجودها بدون مسبب.
وإما تكون ممتنعة الوجود ويلزم لوجودها سبب.
ولعل أحجية أيهما أسبق الدجاجة أم البيضة؟ هي أبرز مثال على بطلان (الدور) وضرورة وجود بداية إما بيضة من العدم أصبحت دجاجة، أو دجاجة من العدم ثم بدأت تبيض، فلا يمكن أن توجد البيضة والدجاجة في الوجود دون الوصول لنقطة الصفر، وهي لحظة خلق الله عز وجل للبيضة ومنها الدجاجة، أو العكس أي الدجاجة ومنها البيضة.
وهذه الضرورة العقلية العلمية هي التي تؤكد ضرورة الإيمان بالله عزوجل مسببِّ الأسباب، الذي خلق الكون بدون سبب ولكن بكلمة كُن فكان، ووضع فيه قانون الأسباب والمسببات.
هذا المنطق العقلي العلمي معروف عند العلماء من قديمٍ باسم دليل الحدوث، وقد أورده ابن خلدون في مقدمته فقال: «إن الحوادث في عالم الكائنات -سواء كانت من الذوات أو من الأفعال البشرية أو الحيوانية- فلا بد لها من أسباب متقدمة عليها، بها تقع في مستقر العادة وعنها يتم كونه وكل واحد من هذه الأسباب حادث أيضا فلا بد له من أسباب أُخر ولا تزال تلك الأسباب مرتقية حتى تنتهي إلى مسبّب الأسباب وموجدها وخالقها سبحانه».
والنظريات العلمية في نشوء الكون تتوافق مع دليل الحدوث كنظرية الانفجار في الفيزياء، التي تنص أنه في لحظة معينة انفجرت فيها ذرة لتشكل الكون، وهناك القانون الثاني للتيرموديناميك، الذي يقرر أن الحرارة تنتقل دائما من الجسم الأكثر حرارة إلى الجسم الأقل حرارة، وأن العكس غير ممكن، وهذا يؤشر إلى أن الكون يتجه نحو التوازن الحراري، بحيث نصل إلى وقت تتساوى فيه حرارة جميع الموجودات، وبذلك تنضب الطاقة اللازمة للبقاء وتتوقف الأنشطة الكيماوية والطبيعية اللازمة لاستمرار الحياة.
فلو كان الوجود أزليا لكانت طاقته الحرارية قد نبضت من وقت بعيد ولم تعد الحياة قائمة، ولكن بقاء الحياة قائمة يؤكد أن الوجود حادث وله نقطة بداية وأن له موجدا وخالقا.
ويشرح السير جيمس مضمون قانون التيرموديناميك بقوله: «تؤمن العلوم الحديثة بأن عملية تغير الحرارة سوف تستمر حتى تنتهي طاقاتها كلية، ولم تصل هذه العملية حتى الآن إلى آخر درجاتها، لأنه لو حدث شيء مثل هذا لما كنا الآن موجودين على ظهر الأرض، حتى نفكر فيها. إن هذه العملية تتقدم بسرعة مع الزمن، ومن ثم لا بد لها من بداية، ولا بد أنه قد حدثت عملية في الكون، يمكن أن نسميها خلقا في وقت ما، حيث لا يمكن أن يكون هذا الكون أزليا».
وهذه الاكتشافات العلمية الحديثة أجبرت العديد من العلماء على الإقرار بوجود الله عز وجل وأنه هو الخالق للوجود، فهذا إدوارد لوثر كسيل أحد العلماء الأمريكان في مجال الحيوانات يقول: « وهكذا توصلت العلوم – دون قصد – إلى أن لهذا الكون بداية. وهي بذلك تثبت وجود الله، لأن ما له بداية لا يمكن أن يكون قد بدأ نفسه ولا بد من مبدئ، أو من محرك أول، أو من خالق، هو الإله ».
ومؤخرا أعلن عالم الفيزياء الفلكية البريطاني مارتن جون ريس، والحاصل على وسام إسحاق نيوتن وجائزة أينشتاين العالمية للعلوم، وجائزة بلزان، وجائزة تمبلتون، إنه وبعد أن كان يعتبر نفسه غير متدين في السابق رغم ارتياده الكنيسة، إلا أنه لم يؤمن بالله إلا بعد بحوثه والفتوح العلمية التي توصل إليها.
ومَن أحب التوسع في معرفة الأدلة العلمية الحديثة على وجود الله عز وجل ونقض فلسفات الملحدين فعليه بمطالعة كتاب (هناك إله) والذي ترجم للعربية وطبعه مركز براهين، ومؤلف الكتاب هو (أنتوني فلو) والذي كان من أعظم أقطاب الإلحاد في عصرنا الحاضر ثم تراجع عن ذلك وأعلن اقتناعه بوجود الخالق والإله، والذي قال عنه أحد آباء العلمانية العربية د. رمسيس عوض في كتابه (ملحدون معاصرون): "إذا كان برتراند راسل وصديقه ألفرد إير من أبرز من هاجموا الدين قبل الحرب العالمية الثانية، فإن أنتوني فلو يعد واحدا من أهم منتقدي الدين في الفترة التي أعقبت هذه الحرب".
إذا فإن الإيمان بالله عز وجل هو الذي يمنح هذا الوجود والكون المعنى والمغزى، ويمنح البشرية الكرامة والقيمة والبوصلة التي توصلها للمجد والخلود في جنات النعيم.
العجيب بعد هذا كله أن تجد بين أبناء المسلمين من يتقبل الإلحاد ويدعو له أو يعتبره وجه نظر، سواء كان ذلك صريحا علنيا أو كان يتدثر به سرا وتقية!!
إن قضية الإيمان بالله عز وجل قضية مركزية في القرآن الكريم والإسلام وتناولته مئات الآيات ومنها قوله تعالى: " إنني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني وأقِم الصلاة لذكري " (طه: 14)، حيث كانت هذه الآية خطابا من الله عز وجل لكليمِه موسى عليه السلام في وادى طُوى المبارك حيث عرفه بنفسه "إننى أنا الله"، وفي هذا تعريف للبشرية كلها أيضا بجعلها آية تتلى آناء الليل وأطراف النهار حتى تقوم الساعة.
إن القرآن الكريم لا يكترث لمنكري وجود الخالق لأنهم شذوذ في تاريخ البشرية ولأنهم يصادمون فطرتهم مهما تجبروا وأنكروا وجود الله عز وجل، ولهم في زعيمهم فرعون عبرة وعِظة حين أغرقه الله عز وجل "حتى إذا أدركه الغرق قال آمنتُ أنه لا إله إِلا الذي آمنَت به بنو إسرائيل وأنا من المسلمين" (يونس: 90)، نعم في واقعنا المعاصر أصبح للإلحاد دول هي الاتحاد السوفييتى وحلفاؤه، لكنها لم تتمكن من الانتصار على الإيمان في قلوب الناس، ولذلك التدين ينبعث في مختلف أرجاء الأرض ومن مختلف الأديان، وحتى الفلسفات الالحادية الحداثية وما بعد الحداثية تواجه انهيارات وارتدادات واسعة مهما تشدق أدعياؤها ببعض الشعارات والكلمات البراقة، لكن القلق والاكتئاب والانتحار سريعا ما يقضى عليهم من داخلهم.
وينصبّ تركيز القرآن الكريم على بيان حق الله عز وجل على عباده وهو التوحيد الخالص لله عز وجل، وهو الذي تضل عنه البشرية دوما خلف الأدعياء المزيفين الذين يتّبعون إبليس "قال فبعزتك لأغوينهم أجمعين * إلا عبادك منهم المخلَصين" (ص: 83،82)، ولذلك أخبر الله عز وجل موسى بالحقيقة المطلقة "لا إله إلا الله" ليخبر بها قومه ويخبر بها المسلمين البشرية إلى قيام الساعة، لا إله إلا الله والتي أصبحت شعارهم وشهادتهم، فلا إله في الحقيقة إلا الله عز وجل لأنه هو الخالق الرازق المالك، وأن كل ما عُبد من دون الله من آلهة هي في الحقيقة مخلوقات خلقها الله عز وجل.
ولأن الله عز وجل هو الإله الحق فهو الذي يستحق الحب والطاعة فقال تعالى "فاعبدني وأقِم الصلاة لذكري"، فالله عز وجل وحده المستحق للعبادة وهي كمال الحب وكمال الطاعة، والتي تتمثل بإقامة الصلاة لذكر الله عز وجل أو عند ذكر الله عز وجل تقام الصلاة، فالقلب المؤمن بالله عز وجل يصلي ليذكر ربه، ويذكر ربه فيصلي له.
ومن هذه الحقيقة تبنثق العقيدة والشريعة الإسلامية، فالإيمان بالله عز وجل يقتضي تيقن المؤمن بأخبار الله عز وجل عن الغيب في الدنيا والآخرة في الماضي والمستقبل، والإيمان بالله عز وجل هو الدافع للمؤمن لالتزام الأحكام الشرعية، وعليه فإن إنكار وجود الله أو التشكيك به هو أمر مناقض للدين من جهة، ومناقض للعلم والعقل من جهة أخرى.
الإيمان بالله عز وجل هو أساس وركن الحياة والعلم والمنطق، ومَن حاول إنكاره أو التكذيب به أو التشكيك فيه، إنما يحاول نشر الفوضى والجهل والقلق، ولن يجلب للبشرية إلا الشقاء والعذاب مهما ظن أنه يحقق لها الحرية والتقدم والسعادة!
إن تاريخ الإيمان الحقيقي هو التاريخ المشرق للبشرية والذي قاده الأنبياء عليهم السلام ومن بعدهم الصحابة الكرام، فسعدت به البشرية وازدهرت حياتها، وفي وقتنا الحاضر كلما اقتربنا من الإيمان الصحيح أفرادا وجماعات وشعوب ودول استقامت أمورنا وسعدت أرواحنا وازدهرت أحوالنا وعمّ السلام والرحمة وحسن الخلق عالمنا.
بينما حين ساد الإلحاد على يد قادة الاتحاد السوفيتي والصين شهدنا المجازر لمئات الملايين من الأبرياء، كما عرف العالم حربين عالميتين قتلت عشرات الملايين وشهدت استخدام القنبلة النووية في ظل العلمانية المادية.
أما الإسلام والقرآن فقد ربطا الإيمان بالله عز وجل بالمحاسبة والمراقبة " إنني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبُدني وأقم الصلاة لذكري * إن الساعة آتية أكاد أخفيها لتجزى كل نفس بما تسعى" (طه: 15،14)، ومن هنا تنبع المراقبة الداخلية والذاتية، التي تكفل استقامة المجتمع، ولهذا لم يعرف تاريخ الإسلام حملات الإبادة والوحشية التي مارستها الأمم والحضارات الأخرى.
الإيمان الصحيح بالله عز وجل هو الكفيل فقط بجلب الوئام للعالم والبشرية والإيمان بالله عز وجل هو الذي يصرف الجهد البشري في مساراته المنتجة والمفيدة دون عوارض جانبية مهلكة، وأي جهود للتشكيك بذلك هي في الحقيقة شن حرب على سعادة البشرية ورخائها وتوريطها في الشقاء والألم، فهل يرتدع السفهاء عن عدوانهم؟
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف