بوابة الشروق
محمود عبد الشكور
مسرحية «المحاكمة».. عن حرية العقل والتفكير
هذه بالتأكيد أحد أفضل العروض المسرحية التى شاهدتها من إنتاج البيت الفنى للمسرح، عمل ناضج شكلًا ومضمونًا، فيه متعة الفن والفرجة، ومتعة الفكر والجدل. أتحدث عن مسرحية «المحاكمة» التى قدمها المسرح القومى، من إعداد وإخراج المتميز طارق الدويرى، ومن بطولة اثنين من كبار ممثلى المسرح القومي؛ أشرف عبدالغفور وسامى عبدالحليم، ومعهما مجموعة رائعة من الموهوبين الشباب، وقد فازت المسرحية عن جدارة بخمس جوائز فى المهرجان القومى للمسرح، وهى تستحق ذلك.
على الرغم من اقتباس النص عن مسرحية أمريكية شهيرة ظهرت عام 1955 بعنوان «ميراث الريح» للكاتبين جيروم لورانس وروبرت لى، والتى اعتمدت فى أحداثها على محاكمة حقيقية عرفت باسم محاكمة القرد فى العام 1925، فإن «المحاكمة» تلامس واقعا مصريا وعربيا بامتياز، ذلك أن حكايتها الغريبة، ومناظراتها الفريدة، تنتصر فى النهاية لحرية العقل والتفكير، وترفض الوصاية باسم تفسير الدين، ولا شك أن جزءًا كبيرًا من سوء الحال فى الشرق عمومًا، يرجع بالأساس إلى تعطيل العقل، وتحريم التفكير، وحصار البشر وتخويفهم، وحصاد هذا المنهج هو الجمود الكامل، الذى يجعل من مجتمعات بأكملها، خارج التاريخ والزمن، إنهم حرفيا يعيشون فى العصور الوسطى فكرًا ومنهجًا.
«المحاكمة» تفتح أمام متفرجها آفاقًا واسعة لمناقشة كل شىء، بما فى ذلك الموقف الذى تقدمه المسرحية، حيث يقاد مدرس شاب إلى المحاكمة فى مدينة صغيرة، لمجرد أنه قرأ على طلبته فى المدرسة فصلا يتحدث عن نظرية داروين فى أصل الأنواع.
عرض المسرحية لا يناقش تفصيلات النظرية، وإنما محوره هو حرية الناس فى أن تقرأ وتتعلم وتفكر، ثم تحدد رأيها بحرية، هذا هو دور العقل الذى منحه الله للبشر، ولولاه ما كان الإنسان مكلفًا من الأساس، ولذلك لا يصح تحت أى مسمى أن تفرض وصاية على هذا العقل، وعلى قدر هذه الحرية، يصبح الإنسان مسئولًا ومحاسبًا، وقد ظهرت المسرحية فى أمريكا فى سنوات المكارثية، وهى فى رأيى لا تقل أهمية عن مسرحية «البوتقة» لآرثر ميللر، فالعملان يقفان فى مواجهة استغلال الدين سياسيا واجتماعيا، أو قيام رجال الدين يفرض تفسيراتهم كمعنى وحيد للنصوص المقدسة.
قام الدويرى بتجريد شخصيات المسرحية من أسمائها، مكتفيا بصفاتها، مثل السيد الفاضل والسيد الموقر والمدرس والمحافظ والصحفى.. إلخ، وفى هذا التجريد ما يمنح الشخصيات صفة العمومية، فكأن الحكاية يمكن أن تتكرر فى كل زمان ومكان.
أما الصراع فى المسرحية فهو قوى ومؤثر، فالمدرس يرفض أصلا أن يعترف بأنه قد ارتكب جريمة، بقراءة نص يمنعه قانون المدينة عن داروين؛ لأن حق الإنسان فى المعرفة، وحريته فى التفكير، أسبق وأشمل من كل قانون، بينما تحاول زميلته المدرّسة التى تحبه أن تدفعه للاعتذار حتى ينقذ نفسه من السجن.
ولكن الصراع الأهم والمحورى هو بين السيد الفاضل (المدافع عن النصوص المقدسة)، وبين السيد الموقر (المدافع عن حرية التفكير). الاثنان محاميان بارعان، وصديقان قديمان، ومناظراتهما فى المحكمة هى قلب المسرحية وغايتها، وبراعة أشرف عبدالغفور فى دور السيد الفاضل، وسامى عبدالحليم فى دور السيد الموقر، جعلتا من العمل مباراة فى الأداء، من النادر أن نجدها بهذا البريق فى الأعمال الدرامية عموما.
لا يرفض السيد الموقر النصوص المقدسة، ولكنه يرى أن ما يقوله السيد الفاضل (وهو أيضًا مرشح للرئاسة يستخدم الدين فى حملته)، ليس هو التفسير الوحيد للدين، ووجود النص المقدس، لا يعنى ألا يدرس الناس النصوص الأخرى بحرية، أو كما قالت الفتاة المدرّسة (ووالدها هو كاهن المدينة الذى عودها على أن تسير فى خط واحد)، فإنها لم تفهم نظرية داروين، وربما لم تؤمن بها، ولكن من الخطأ أن نقتل الأفكار، أو أن نمنع الناس من مناقشتها والتفكير فيها، فالفكرة كالطفل، الذى يجب أن يولد، ولا ينبغى أبدا إجهاضه.
الصراع فى المسرحية إذن بين فريق يريد تعطيل العقل، وتعطيل الحاسة النقدية، تحت شعار يتكرر فى المسرحية هو: «ما ورثته عن أبى خير لى وكفاية»، وبين فريق يؤمن بالعقل، ويراه سببا ضروريا فى التقدم، ويثق فى قدرة البشر على الفرز والاختيار، وينجح السيد الموقر فى استخدام شهادة السيد الفاضل لصالح المدرس، فيحكم عليه بالغرامة فقط.
لم أكن أتمنى أن يموت السيد الفاضل؛ لأنه يمثل نمطًا لا يموت أبدًا، وربما يُفهم موته على أنه نهاية للصراع، ولكن الحكاية التى رواها السيد الموقر فى النهاية عن ضرورة البحث وراء المظاهر اللامعة، واكتشاف الخلل الكامن وراء الطلاء المزيف، وإعلان ذلك دون خوف، هذه القصة الأخيرة لخّصت الفكرة بقوة، وجعلت الفرد مسئولًا أمام نفسه، وأمام العالم كله.
تمنيتُ لو أن هذا العرض المسرحى البديع قد تم تسجيله على شريط فيديو، ليبقى ضمن أرشيف أفضل ما أنتجه البيت الفنى للمسرح، ولتتاح فرصة عرضه على شاشات الفضائيات.
وعلى عكس مسرحيات الأفكار التى تبدو «مملة»، فإن طارق الدويرى جعل من النص فرجة مسرحية ممتعة، مستخدما تقنية الفيديو فى تجسيم وتضخيم بعض العبارات، وفى السخرية من الصور الثابتة من الرجل الفاضل، ومستخدمًا خشبة المسرح الدوّارة فى التعبير عن المباراة الفكرية الشرسة، والتى تحولت فى النهاية إلى حلبة تشبه حلبات المصارعة والملاكمة.
بل إن الدويرى نجح فى نقل الصراع إلى صالة المتفرجين، بنزول الممثلين إليها، وبتوزيع أوراق للرأى حول إدانة المدرس أو براءته، وبإجلاس المحلّفين فى صفوف المتفرجين، وكأن كل مشاهد أيضا يقوم بدور المحلّف، وهناك أيضًا هذا الاستخدام الدرامى للإضاءة التى صممها أبو بكر الشريف، ولموسيقى تامر كروان المعبرة، ولديكور محمد جابر الذى جعل من ساحة المحكمة شيئًا أقرب إلى السيرك، بالذات مع ظهور عازف الأوكورديون البارع (سالم عسر)، وحضور فئات من العامة، كانوا جميعا رائعين فى شخصياتهم المختلفة، وفى توظيفه الجيد للرقصات التى صممها ضياء ومحمد، وأهمها الرقصة الافتتاحية، بحضور رجل الدين الصارم والثابت كتمثال (القدير حمادة شوشة)، ووكيل النيابة (عبدالعزيز محمد).
لستُ ضد استخدام الفصحى والعامية معًا فى العرض، ولكن على أن تكون العامية من نصيب الحوار العادى بأكمله، وتكون الفصحى فى المرافعة داخل المحكمة؛ لأنّ تداخل الفصحى والعامية فى الجمل لم يكن موفقًا.
ولا أنسى الإشادة بشكل خاص بحضور وموهبة عماد الراهب فى دور الصحفى، وسلمى الديب فى دور المدرّسة، التى سيكون لها شأن كبير كممثلة مسرحية، وعادل خلف فى دور الحاجب، والذى يمتلك حسًا كوميديا مدهشًا، ذكرنى بموهبة الراحل سعيد أبو بكر.
«المحاكمة» إذ تستدعى قرد داروين، تذكرنا بسخرية لاذعة بقرود آخرين من العصور الوسطى، يعيشون بيننا فى كل مكان، يكرهون العقل والحرية، ويتوهمون أنهم يستطيعون قتل الأفكار، ويسببون المتاعب للمدينة بضيق أفقهم، ولا يرثون فى النهاية إلا الريح.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف