المصريون
د. حسام عقل
أديب والبحيري.. وصلة قصف تمهيدية
في حوار تليفزيوني مطول ، أداره الإعلامي ( عمرو أديب ) _ قبل يومين _ مع ( إسلام البحيري ) ، المفرج عنه حديثاً بموجب (عفو رئاسي)، باشر الرجلان في الحوار المطول كل أشكال التحريض والإقصاء وغسل المخ لألوف البسطاء، كان القصف النيراني مكثفاً، وكانت جرعة البذاءة شديدة التركيز، وكان كرنفال الاستباحة شاملاً للجميع _ في القديم والحديث _ وتم توجيه دانة المدفع الكبير لـ(الأزهر) - كياناً ومؤسسة ورموزاً - بغل أسود وحقد موتور طافح، لم يختر حتى الكلمات بعناية أو يتحفظ أو يحفظ للحوار أدباً، كما تم توجيه دانة المدفع نفسه - بشكل هستيري - للمفكر الكبير د / (محمد عمارة) بهدف أوحد ليس ثمة هدف آخر إلى جواره: الاستئصال التام للرجل بوشاية (أمنية) رخيصة على الهواء مباشرة لإبعاد المفكر الكبير عن المشهد المصري أو رقعة الوطن بأي ثمن ودون أي منطق، مع أن الرجل شبه معتزل في صومعته منذ ثلاث سنوات، لا يتعامل إلا مع قلمه وأوراقه، بعد إبعاده عن طاقم تحرير مجلة (الأزهر)!.
حمل (البحيري) غل السنة التي مكثها في محبسه، وراكم المرارات في جرعة حقد مركز استهدف به الأزهر وعمارة، (والمدهش أن البحيري لم يشجب سجانه نفسه بهذا الحقد الأسود!) ومضى البحيري يقصف الجميع بجمل شديدة الاستفزاز، معبأة بالضغينة الموروثة، مغلفة باستباحة غير مسبوقة قياساً حتى إلى تاريخه الشخصي نفسه مع الاستباحة، وإلى جواره ظل (أديب) يهز رأسه - بخبث - ويباشر دور (السنيد) في وصلات الإنشاد، فالمنشد الأصلي (البحيري) ينوع الزخارف اللحنية المنكرة - يميناً وشمالاً _ لإظهار الأزهر نبعاً أوحد للشر، وسبباً حصرياً وحيداً في كل عمليات الاغتيال والتفجيرات الأحدث في مصر، و(أديب) إلى جواره ينفخ في (الأرغول) ويكرر المقطع اللحني الأصلي: (الأزهر شرير.. الأزهر رديء.. الأزهر سبب أوحد للكارثة..) وتتكامل أنشودة الخبل لما يقرب من الساعة! لا أشك _ للحظة _ أن ثمة ضوءاً أخضر أوقد للرجلين في إطار وصلة قصف تمهيدية، لقرار استئصالي قادم يمس المؤسسة (الألفية) الأعرق في مصر! وثمة جدل واسع وهمسات تجري في الكواليس بمشروع قرار، يجري إعداده للعرض على (مجلس الشعب)، حيث تهامس الخبثاء بأن هنالك اتجاهاً لحل الكليات العملية بالأزهر، وحل الكليات اللغوية والشرعية، ثم تجميع ما بقي بعد الحل، في إطار جامعة جديدة تسمى جامعة (الإمام محمد عبده)، ويترافق مع ذلك - فيما يهمسون به - إلغاء الإعدادية الأزهرية بتمامها، ووضع شرط حفظ القرآن الكريم كاملاً شرطاً أساسياً للالتحاق بالابتدائية الأزهرية! مع الاتجاه لإلغاء ما يقرب من عشرة آلاف معهد ديني، ليكتمل مخطط الاستقالة من العروبة، والانسحاب التام من الإسلام نفسه! وآمل أن يكون ما يتهامس به الخبثاء في الأروقة غير صحيح؛ لأن غياب الأزهر - أو تغييبه ! - معناه تعبيد الطريق في مصر تماماً لرفاق (أبي بكر البغدادي) _ بسلاحهم القوي وفقههم القائم على الاستباحة الذي سيجد آنذاك آذاناً صاغية بالتأكيد مع تفجر موجات الاحتقان والغضب الشعبي المنفلت - لإلحاق مزيد من الضربات القاصمة بالسلطة والتجمعات والكيانات المدنية على السواء، والتهام ما بقي من الفكر الوسطي في بلادنا لحساب (الدعشنة) الكاملة للفضاء المصري، الذي ملأه الإحباط، وهيمنت عليه الحثالات الإعلامية التي نبتت في العشوائيات، وتراكم فيه الفشل السياسي، والإخفاق الاقتصادي المخجل! وبوضوح فإن إبعاد الحاضنة الأزهرية وإجهاضها، معناه - دون تفلسف أو زخرفة للحقائق بالماكياج!_ فتح كل الطرق المؤدية إلى المعارضة الراديكالية المسلحة، التي تستوحي فضاءات (داعش)، وتشتغل بهمة شديدة على استقطاب الشباب المحبط، الذي تسرب من ثقوب السلطة وظلمها وافتقارها إلى أية رؤية أو مسارات إصلاحية في أي اتجاه، لحساب كلمة غائمة عائمة: ".. اصبروا وتحملوا!.." دون بذل الجهد الميداني السياسي والاقتصادي الرهيب الذي يتطلبه الإصلاح أو حتى منح بعض الأكسجين للرئة المصرية المختنقة!
تمت إعادة تدوير (إسلام البحيري) للرأي العام بطريقة بالغة الذكاء - لتعويض الضحالة وضعف الأدوات - ففقد كان من مؤهلاته في السابق أنه (الحاصل على الماجستير في تجديد الخطاب الديني من جامعة (ويلز) بإنجلترا وأنه (المحامي التنويري) الذي لا يشق له غبار، وعندما تعثرت المسيرة التنويرية - مع بروز ضعف الأدوات - تمت إضافة بند تأهيلي جديد، مصنع بالاتفاق مع السلطة: (سجين فكر) أو (شهيد فكر)! فهو يتحدث الآن بـ(ميراث مظلومية) جديد، جرى تصنيعه مع السلطة بصورة محبوكة! وبوضوح فإن (عمرو أديب)، يتحدث الآن داخل الأستوديو مع (البحيري)/ المعدل، صاحب إرث المظلومية، وشهيد الفكر التنويري! وهو ما جعل البحيري - أثناء الحوار - يعدل ياقته أمام الكاميرات باستفزاز وغرور، قائلاً: ".. أنا كسبان 2 / صفر!".
تحدث البحيري عن تفجيرات الكنائس الأحدث ورأى أنها (ذيل السمكة) _ بتعبيره _ أما رأسها فيوجد هناك في (كتب الأزهر)! وهو ما جعله يصيح بصدى ملأ جنبات الأستوديو: ".. القنبلة في الكتب.."! هكذا بصورة تعميمية دون تمييز بين كتاب وكتاب أو بين غلاة ومعتدلين أو بين مذهب وآخر! وركب (البحيري) أعلى موجات الغرور، بتأكيده أن من وصفهم بيان الأزهر الأحدث بـ(المتضخمة نفوسهم) تعبير مقصود به (إسلام البحيري) نفسه، ورد البحيري _ بنفس الديماجوجية والاستفزاز _ : "موش هايعرفوا يعملوها معايا تاني.." ! (حوار من يلعب "السيجا" على المصطبة !).
وتضاعفت النرجسية بـ(شهيد الفكر الجديد) فمضى - بتحفيز كامل من السنيد (أديب) _ يصرخ في الأستوديو: "..أنا أحسن منهم.. أنا أعلى منهم!.." (أي كل العلماء في السابق واللاحق!) وواصل الرجل _ مع موجة الورم النرجسي _ تعقيباته بالتأكيد على أنه يمكن استبقاء ثلاثمائة وخمسين حديثاً فقط من جملة مليون حديث! ولا بأس أن تعيش بيننا هذه الأحاديث الثلاثمائة فقط (ياللكرم الحاتمي!) وليس مهماً إخبار المستمعين _ الذين جرى استحمارهم! _ بموضوع هذه الأحاديث الثلاثمائة أو نوعها أو سندها أو مراجعها، فالحقيقة كامنة في صندوق مغلق لا يملكه إلا البحيري وأديب!.
وعندما سأل (أديب) شهيد الفكر الجديد عن (انتشار الإسلام في أمريكا وأوروبا) بمتوالية عددية كبيرة، صاح البحيري وهو يجز على أسنانه: ".. انتشار الإسلام ليس دليلاً على قوته!!.." وواصل الرجل بهمة مهاجمة شيخ الأزهر لأنه تجرأ وقابل (جان ماري لوبان)! ولم يخبرنا وريث التنويريين الكبار ماذا كان مطلوباً من شيخ الأزهر كي يتعامل مع (الآخر)، هل يقابل مثلاً أبا بكر البغدادي؟!
وحينما ألح عليه (أديب) - عدة مرات - كي يخبره عن رأيه في فتح (عمرو بن العاص) لمصر، اضطر البحيري لأن يقول بتنهيدة كبيرة، أحرقت سخونتها كاميرات الأستوديو: ".. فتحوا اللي فتحوه.. واللي حصل حصل!.." ولك أن تفهم ما بين السطور من التربص والغل الأسود!
تخسر السلطة (الجلد والسقط) - كما يقول أولاد البلد - إذا تصورت أن إزاحة الأزهر العظيم حل من الحلول، لأنه لم يبق من مؤسسات الكيان المصري الواقفة على قدميها فعلياً سوى (مؤسسة الجيش) التي يمكن أن تضمن حماية الحدود، و(مؤسسة الأزهر) التي يمكن أن تضمن حماية الأدمغة من خطر التغريب اللاديني أو التطرف والغلو بكل أشكاله. ويتعين أن نفهم أن انفجار العنف سببه _ بوضوح _ خيارات السلطة منذ ثلاث سنوات لا كتب الأزهر الموجودة من أكثر من ألف سنة دون أن تتسبب في تلغيم كنيسة أو تفجير مسجد أو اغتيال أبرياء مدنيين! لكنه التمسح بأية عوامة لتبرير فشل السلطة التاريخي!.
وحين تنفجر موجة الغلو المسلح أكثر فأكثر وتكبر _ تدريجياً _ ككرة الثلج (ولا نتمنى بالقطع هذا المصير المرعب)، سيكتشف عباقرة المرحلة أنهم أزاحوا السند الوحيد لهم في معركة الاعتدال، وهو السند الأزهري لا غيره، وسيكتشف أن بطانة المنشدين للإقصاء والتحريض والاستباحة، سيلوذون مختبئين - آنذاك - تحت الكراسي، فراراً من زخات الرصاص الحي، التي صنعها الإقصاء، والتحريض، والرهان على الانقسام، والاستهتار بدموع الفقراء وأوجاعهم. ولا عزاء حينئذ للنادمين بعد فوات الأوان! وموعدنا في المقال القادم - بإذن الله - لنعرف الفارسين المحاربين لطواحين الهواء: ما هو الأزهر؟ ومن هو د. محمد عمارة؟ وللحديث بقية.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف