الأهرام
عبد الرحمن سعد
نحو ثبات انفعالي
وردت الدعوة إلى كظم الغيظ، والحِلم عند الغضب، والعفو عن الناس، وغيرها من أخلاق ضبط النفس، التي تُسمى في العلوم الحديثة: "الثبات الانفعالي"؛ في العشرات من آيات القرآن الكريم، وأحاديث الرسول، صلى الله عليه وسلم، وذلك في سبق علمي فريد للإسلام، منذ أن نزل الوحي الكريم به.
لقد عُرفت أمة الإسلام، طيلة تاريخها، بأنها أمة الأخلاق العظيمة، التي تتقرب إلى الله تعالى، بها، باعتبارها جِماع "الثبات الانفعالي".

نحتاج، إذن، إلى هذا الخلق، في يومنا، حتى مماتنا.. في بيوتنا وأسرنا، ومعاملاتنا وسلوكنا، وأفراحنا وأحزاننا، وليِننا ورِفقنا، ونجاحنا وإخفاقنا، وهزيمتنا ونصرنا.

فهذا الخلق إكسير الحياة، ولُب دعوة الإسلام، وجوهر سلامه للعالمين، ومنبع هداه، وأصل طمأنينة النفس، وسكينتها.

قال تعالى: "وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ ۗ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ".(آل عمرا:133). وقال: "فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ ۖ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ ۖ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ". (آل عمران:158).

وقال: "وَاصْبِرْ عَلَىٰ مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا".(المزمل:10)، وقال، مخاطبا رسوله: "وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ".(نون: 4).

هذا الرسول الكريم، الذي تحلَّى بالثبات، ورباطة الجأش، فلم يترك نفسه أسيرة للانفعالات، أو مملوكة بالغضب، أو مسكونة بالعصبية، أو متهورة بالاندفاع.

وها هو، صلى الله عليه وسلم، يقول: "اللَّهُمَّ اهْدِ قَوْمِي فَإنَّهُمْ لا يعْلَمُونَ". وجاء قوله هذا في مناسبات مختلفة: يوم عرضه للدعوة على أهل ثقيف، إذ تعرضوا له بالاساءة، فجاءه جبريل، ومعه ملك الجبال، يأتمر بأمره، فرفض النبي أن يدعو على قومه، أو أن يطلب استئصالهم، بل قال: "اللهمَّ أهد قومي فإنهم لا يعلمون".

ومنها أنه، صلى الله عليه وسلم، قالها يوم أُحد، عندما شُج وجهه، وقيل له: ألا تدعو عليهم؟ فقال: "اللهم اهدِ قومي فإنهم لا يعلمون"، فنزل بعدها قوله تعالى: "إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ ۚ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (56)".(القصص:56). ومنها أنه، صلى الله عليه وسلم، قالها يوم فتح مكة.

أيضا طعن رجل، في عدالة الرسول، صلى الله عليه وسلم، قائلا: "اعدل"، فردَّ عليه، بابتسامة: "فمن يعدل إذا لم يعدل الله ورسوله.. يرحَمُ اللَّهُ مُوسَى، قَدْ أُوْذِيَ بِأَكْثَرَ مِنْ هَذَا فَصبرَ".

والأمر هكذا، أثمرت تعاليم القرآن، وأفعال الرسول، في شخصيات الصحابة، فصاروا قدوة للعالمين، في انضباطهم بالشرع، دون استجابة لِحَيف أو غضب، أو نزوع إلى انتقام، أو ميل مع هوى.

وها هو عمر بن الخطاب، وقاف عند كتاب الله. فعن ابْنِ عباسٍ رضي الله عنهما، قَالَ: "قَدِمَ عُيَيْنَةُ بْنُ حِصْنٍ، فَنَزَلَ عَلَى ابْنِ أخِيهِ الحُرِّ بنِ قَيسٍ، فَقَالَ عُيَيْنَةُ لابْنِ أخيهِ: يَا ابْنَ أخِي، لَكَ وَجْهٌ عِنْدَ هَذَا الأمِيرِ، فَاسْتَأذِنْ لِي عَلَيهِ، فاسْتَأذَن فَأذِنَ لَهُ عُمَرُ. فَلَمَّا دَخَلَ قَالَ: هِي يَا ابنَ الخَطَّابِ، فَواللهِ مَا تُعْطِينَا الْجَزْلَ، وَلا تَحْكُمُ فِينَا بالعَدْلِ. فَغَضِبَ عُمَرُ، حَتَّى هَمَّ أنْ يُوقِعَ بِهِ. فَقَالَ لَهُ الحُرُّ: يَا أميرَ المُؤْمِنينَ، إنَّ الله تَعَالَى قَالَ لِنَبيِّهِ: "خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ".(الأعراف: ١٩٩)، وَإنَّ هَذَا مِنَ الجَاهِلِينَ". واللهِ مَا جَاوَزَهاَ عُمَرُ حِينَ تَلاَهَا، وكَانَ وَقَّافًا عِنْدَ كِتَابِ اللهِ تَعَالَى". (البخاري).

رُوي أَنَّ جبريل، عليه السلام، قال للنبي، صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ ربَّك يأمرك أن تصل مَنْ قطعك، وتُعطي مَنْ حرمك، وتعفوَ عَمَّن ظلمك". وقال جعفر الصادق: "ليس في القرآن آيةٌ أَجمع لمكارم الأخلاق من هذه".

وهذا عثمان بن عفان، رضي الله عنه، يلقى الله تعالى، موقنا بقضائه، لا يلقاه بدم أمرئ مسلم، بل بإيمان يسكن قلبه، والمصحف بين يديه.

إن الثبات الانفعالي، وضبط النفس، وكظم الغيظ، والتحكم بالغضب، والتحلي بالحِلم؛ أخلاق تستحق أن نكد ونكدح، حتى نكتسبها، ونتحلَّي بها، في المواقف المختلفة، ولمَ لا، وهي دليل رقي المرء، وعلامة اتزانه، ورجاحة عقله.

في هذا الزمن العصيب.. ما أحوجنا، نحن المسلمين، إلى أن ننضبط بهذا الخلق، فيما بيننا، ومع أعدائنا، فبه ننتصر، وبه تنفح مغاليق القلوب، وتنقدح العقول بنور الحكمة، في عطائها للبشر، بفيض الكرم الإلهي، والتقوى الربانية، والهدي النبوي.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف